"ترامب بدّه يهجر أهل غزة"، يقولها شاب غزّي بملامحه المرتاحة، وابتسامته الصادقة أمام عدسة المصوّر، ثمّ يغرق في ضحكٍ ساخر متواصل، ويتابع "ولك أهل غزة قاعدين يحفروا بير مي، ورجعوا يبنوها من أول وجديد".
هنا تجد نفسك، بسبب براءة ضحكة المتحدّث، تبتسم، وربما تضحك لا إرادياً، ضحكة تسعدك وتبثّ فيك روح التحدّي والاعتزاز. ثمّ يجول المصوّر بعدسته ليلتقط صور دمار البيوت والخيام التي تؤوي بقايا العائلات من المطر والصقيع لتصل إلى امرأة تخاطب عدوّها من خلال مكبّر صوت الصحافي: "ذبحتونا، ماهمناش، قتلتونا، ما همناش، شرّدتونا، ما همناش"، وبكلّ طمأنينة ورضى تختم بـ "عملتوا فينا البدع، لكن الحمد لله صامدين".
هذه بعض الأمثلة التي تجعل العالم كلّه يتساءل عن سرّ هذه القوّة، وعمّا يعطي الحافز والمثابرة والإصرار لشعب لم تلتئم جراحه، ولم يستعد حياته العادية، ولم يتسنّ له النهوض من تحت الركام، بل ما زال عدّوه يطلّ عليه، بلسان رئيس أعتى دولة في العالم، بالتهديد والوعيد ليقول له: سأشرّدك من أرضك، وأتابع تشويه حياتك، والقضاء على ما بقي من عنفوانك! وفي تهديده الآن يبدو أكثر شراسة من أيّ وقت مضى، بل ويحظى بجوقة "أوبرالية" تنعق بما يقوله من تهديد لشعب خسر كلّ مقوّمات البقاء.
ما الذي يجعل شعباً عانى كلّ هذه السنين متشبّثاً بأرضه، ثمّ شهد لمدة 476 يومًا القصف والدمار والقتل وخسران الممتلكات والأهل والأولاد والأصحاب ومصادر الرزق، يخرج من كلّ هذا الأذى ويتحدّى بلغة الواثق المطمئن أنّه لن يُهزم ولن يخضع لرغبات عدوّه مهما توعّد وتجبّر؟
في تاريخ الأمم، نجد أنّ القوي هو من يُبادر بالاعتداء على الضعيف، بدءًا من غزو الإمبراطورية الرومانية لدول أوروبية وأفريقية وآسيوية بهدف التوسّع، مرورًا بقضاء إسبانيا على حضارة الآزتك، إلى عالمنا المعاصر حيث اعتدت روسيا على أفغانستان، وأميركا على العراق، وإسرائيل على فلسطين ولبنان. في الحالات هذه، لم نشهد أنّ الضعيف طلب الحرب أو بادر بسلوكياتٍ تثير المشكلات مع الجهة القوّية، بل على العكس، دائمًا شهدنا الجانب القويّ يكتب السيناريوهات التي تظهره على أنّه صاحب الحقّ، ويصنع لنفسه عدواً ضعيفاً يظهره على أنّه مصدر الشرّ الذي يجب القضاء عليه ليجنّب نفسه، وأحياناً العالم، من شرّه. ومع أنّ هذا السيناريو لا يقنع أحداً لسذاجته وعدم واقعيّته، إلا أنّ العالم يتصرّف كالمشاهد لحلبة صراع، يصفّق للقوي المتسلّط، ويندّد بالمسالم الضعيف الذي لم يكن له رأي في الاندماج بهذا الصراع من الأصل.
ثم يُوضع ذلك المستضعف في حلبة الصراع مضطراً للدّفاع عن نفسه، فيما يستمرّ القوي بتجييش المؤيّدين له والبحث عن المزيد من الأنصار، ويتابع في صعق ذلك المستضعف ليقع مراراً وتكراراً إلى أن يصبح في حالةِ ضعف وإنهاك حتى يظنّ العالم أنه هلك، ليفاجئنا أنّه نهض من ضعفه واستعاد عافيته، بل أصبح أكثر قوّة ممّا كان عليه، ليتكرّر مشهد الصراع من جديد، وهو في كل مرّة يستعيد عافيته، وفي كلّ جولة ينهض أكثر قوّة وأمضى عزيمة من الجولة التي سبقتها. وما نعرفه في عالم الرياضة أنّ الجمهور جزء من المعركة، وأنّ التشجيع عنصر مهمّ في قوّة عزيمة اللاعبين وتحقيق فوز الفريق، إلا أنّ الفريق المستضعف في غزّة يخوض معركته من دون أن يجد من يصفّق له أو يدعم صموده، بل العالم المتفرّج في حالة نكران للحقّ الواضح لكلّ ذي قدرة على الفهم والتدبّر، وهو مع ذلك كلّه يقفز ذلك المستضعف من تحت الركام الهائل وينهض من تحت الرماد مؤكّداً أنّه صاحب الحقّ الذي لا يموت.
هكذا هو شعب غزّة المستضعف، يزداد قوّة مع كلّ جولة من جولات صراعه مهمّا كانت خسارته، إلى أن يصبح قتله صعباً، ويتحوّل القضاء عليه إلى عملية مستحيلة. وهذا ما أشار إليه المفكّر نسيم نيكولاس طالب، من أنّ هناك من يضعفهم الأذى ويصيبهم بالهشاشة، وآخرين يقاومون الأذى من دون الإصابة بالوهن والضعف، فهم أقوياء قادرون على التحمّل. أمّا الصنف الذي يفاجئنا فهو شعب غزّة الأبيّة الذي يصنع منه الأذى شعباً لا يُقهر، وقوّة لا يمنعها أيّ قهر عن التشبّث بالأرض، والتمسّك بالحياة، والقدرة على التحمّل ومواجهة الموت وكلّ أنواع التحدّي. هؤلاء الذين يصفهم طالب بالمضادين للهشاشة، يتمتعون بالمتانة، وهم ليسوا بأقوياء فحسب، بل في قوّة تتزايد باضطراد مع تزايد الأذى الذي يتعرّضون له.
وهذه الضدّية للهشاشة هي ما يجسّده ذلك الشاب المبتسم المستهزئ برئيس أعتى دولة في العالم، وتلك المرأة التي تخاطب عدوّها المتسلّط الجبار. لينضمّ إليهما من يؤكّد أنّه ليست هناك قوّة تستطيع اقتلاعهم من أرضهم، "مش احنا اللي نرحل، احنا أصحاب البلاد"، وآخر يشبه شعبه بشجر الصنوبر، "جذورنا بالأرض، تحت، تحت"، ومن هو واثق من أنّ ليس من قوّة ستقضي عليه مردّداً، "سأبقى أنا من بعد أبي، وسيبقى ولدي من بعدنا". هؤلاء من استبعدهم العالم كلّه، فاتخذوا غزّة لهم عالما، دافعوا عنها، فأصبحت حصنهم المتين، وبرجهم العالي ومصدر قوتهم وسرّ حياتهم التي لا تموت.
No comments:
Post a Comment