Thursday, November 8, 2012

اللّغة في سنوات الطفل الأولى

مقالة نشرت في مجلة "القبس"

يؤكّد علماء النّفس والاجتماع والتّربية على الأهمية البالغة للسّنوات الأولى من حياة الإنسان
بالنسبة لتكوينه النفسي والاجتماعي والذهني. ويولي هؤلاء أهمية خاصة للنمو اللغوي الذي له الدور الأعظم في تحديد المصيـر الدراسي للطفل. فاللغة، كما يرى أستاذ علم الاجتماع اللغوي "برنشتاين" المهتم بعملية التنشئة الاجتماعية، نمطان : نمط متبلور ونمط محدود. ونمط اللغة عند الطفل يحدّده محيطه المباشر(العائلة) منذ صغره.
يتميّز النّمط المتبلور بوجود قاموس لغوي غني في محيط الطّفل، يكثر فيه استعمال الرّوابط الكلامية، حيث تعتمد فيه العائلة على الإكثار من كلمات الوصف والجمل الطويلة المتنوعة التراكيب، وهو محيط يتداول أفراده الكتاب والصحيفة والمجلة والـ CDs  ويستعملون الكمبيوتر ويتحدّثون بأصوات لا ضجيج فيها، بينما تكون ال غة في بيئات الن مط المحدود ضعيفة قليلة الاستعمال، جملها قصيـرة وتراكيبها بسيطة والوصف فيها نادر والشرح فيها قليل، مع أفكار مشوَّشة وتعابـر غيـر واضحة الدّلالة، مترافقة مع الإكثار من حركة الجسد والإشارات اليدوية الّتي تنمّ عن فقر المعجم اللّغوي لديهم.
أما ربط النّمو اللّغوي عند الطّفل بتحديد مصيـره الدراسي فيعود إلى أن لغة الصّف هي اللّغة المتبلورة، فمن كان رصيده اللّغوي متبلوراً في بيته، يجد صفه مكاناً مريحاً له، حيث يستطيع التّواصل مع معلّميه وزملائه بشكل تلقائي، وبذلك يعطي صورة إيجابية عن نفسه، الأمر الذي ينعكس على نظرة معلّميه إليه في جعلهم أكثر اهتماماً به كما أظهرت الدّراسات.
وعلى النّقيض من ذلك من كان رصيده اللغوي محدوداً في بيته، يجد نفسه غريباً في صفّه، غيـر قادرٍ على التّأقلم والتّواصل مع معلّميه ورفاقه بالشّكل الّذي يُتوقّع منه. ويعود ذلك إلى أن اللّغة الّتي أتى بـها من بيته غيـر لغة معلّميه ولغة كتبه أو حتى لغة الكثيـرين أقرانه. وبتعبيـر آخر، لغته مختلفة عن لغة بيئته الجديدة: الصف. ولذلك كان من الطّبيعي أن ينظر إليه معلّموه على أنّه "خجول"،" لا يشارك"، "ضعيف"، "دون مستوى الصف" إلى ما هناك من تصنيفات لـها دلالات ضمنيّة موضحة أنّ هناك ضعفاً في قدراته التعلُّمية، الأمر الذي قد لا يكون صحيحاً على الإطلاق.
هذا مع العلم أنَّ صاحب اللّغة المحدودة لا يُعطى في معظم الأحيان الفرصة ليظهر ما عنده من قدرات ذهنية ومهارات لغوية، وما يملك من استعدادات وقابليّة لتطوير لغته وتعلُّم المزيد، وبذلك يُحرم هذا التلميذ من الكثيـر من الفرص الّتي قد تتيح له التقدُّم ليصبح مستبعداً عن مجموعة التّلاميذ الّتي تحصل على الاهتمام. كلُّ ذلك سببه الصّورة السّلبية الّتي يرسمها المعلّم عن التّلميذ، مما يؤدي إلى صورة سلبيّة يرسمها التلميذ ذاته عن نفسه، حتى يصل إلى التعثّر الدراسي والفشل الحياتي.
ونحن عندما نمعن النظر نلاحظ أن التلاميذ الذي يعانون من التأخُّر الدراسي في صفوفهم الابتدائية نجد أنّ معظمهم من التلاميذ الخجولين، قليلي الكلام، حيث لا يجيدون من اللّعب الجماعي إلا ما كان قاسياًً، مع لجوئهم إلى الضّرب والعنف الجسدي بدلاً من الكلمة والحوار للتعبيـر عن أنفسهم عند أيِّ موقفٍ أو مشكلة، ومردّ ذلك كلِّه إلى عدم تأمين النّمط اللّغوي المتبلور في بيئة الطّفل وبيته، ولو أن الأهل انتبهوا إلى أهميّة الاستخدام العالي للّغة في حياة أبنائهم ، لتجاوز ابنهم هذه المشكلة، ولأصبح أكثر قدرة على التكيّف مع بيئة المدرسة.
إنّ دور الأهل هو الأكثر أهمية في إكساب الأبناء نمطاً لغوياً يساعدهم على التقدّم الدّراسي الطّبيعي الّذي يستحقّونه، وتأمين المخزون اللّغوي والثّقافي الذي يحقِّق للطفل التكيُّف المدرسي ويبعده عن الاستبعاد الدراسي والتعثُّر التعلّمي، ومن هنا وجب على الأهل أن يحرصوا على تأمين الجوّ الثقافي المناسب، والإكثار من استخدام اللّغة في التّعامل اليومي، فمن شأن ذلك المساهمة في نجاح التلميذ وإكسابه المعارف والمهارات والثّقة بالنّفس وتقدير المعلّمين وإعجاب الزّملاء.