تحدّد الجماعات والمؤسسات قيمها الحاكمة لتكون بمثابة الحامي لتصرّفات وقرارات أفرادها، ما يضمن عدم انحرافهم عن المبادئ والقناعات الأخلاقية، فيساهم بالتالي في توجيه جهودها ومساعيها نحو تحقيق الأهداف والرؤى التي تصبو إليها. على النقيض من ذلك، نجد المبدأ الذي أسّس له الفيلسوف السياسي نيكولا ميكيافيلي في أهم أعماله، كتاب "الأمير"، حيث يحثّ السياسيين على الوصول إلى مكتسباتهم السياسية والمحافظة عليها بكلّ السُّبل والسلوكيات المتاحة، حتى وإن تنافت مع الأخلاقيات وخرقت المقبول. هذا المبدأ هو وراء مقولة "الهدف يبرّر الوسيلة"، ذلك المفهوم البراغماتي البارد الذي يحرّك سياسات العالم وديناميكياته.
لكننا اليوم نجد أنفسنا أمام نموذجٍ مخالفٍ بالكامل لتعاليم أحد أهم المؤسسين للفكر السياسي المعاصر. هذا النموذج استسقى قيمه من السماء وربط رؤيته بربّ السماء، فحكمت قيمٌ سماويةٌ سلوكَ وخِطط وقرارات أهل الأرض، تلك الأرض المُحَاربة من كلّ حدبٍ وصوب، فكانت رؤيتهم ربانيةً لا تزعزعها مغرياتُ وأطماع حياةٍ زائلةٍ فانية.
هذا الارتباط الرباني يتجسّد في طمأنينة أمٍ تجمع رفات وحيدها في كيس، حامدةً ربها، مستغيثةً به أن يصبِّرها على مصابها، وفي فخر شابٍ صغيرٍ عثر على كرسيٍّ برتقاليٍّ في بيته المدمّر فاحتفظ به لأنه الكرسي الذي، كما شاهد في فيديوهات وسائل التواصل الاجتماعي، جلس عليه أحد أهم المدافعين عن أرضه في لحظاته الأخيرة قبل ارتقائه. يتجسّد الارتباط الرباني في محاربين يعاملون أسرى عدوّهم المنافق الغدّار بأرقى درجات التعامل الإنساني النبيل لأنهم شرفاء، والنبل من شيم الشرفاء، فلا يستقوي نبيلٌ على أسيرٍ ضعيفٍ في حالات انكساره.
القيم التي تحكم سلوك أصحاب الأرض العُزّل هي التي تعطيهم الطمأنينة والثبات والصبر والمثابرة في مضيّهم نحو رؤيتهم
هذه القيم التي تحكم سلوك أصحاب الأرض العُزّل إنّما هي التي تعطيهم الطمأنينة والثبات والصبر والمثابرة في مضيّهم نحو رؤيتهم، وهم يعرفون يقينًا أنّ دربهم دربٌ طويلٌ وعر. لقد اختاروا لأنفسهم أهدافًا نبيلة، وأبوا إلا أن تكون سلوكياتهم وقراراتهم متسقةً معها مهما تطلّب ذلك من صبرٍ وجهادٍ في ظروف قاسيةٍ ومواجهاتٍ شرسةٍ ومصائب جليلة. في مقابل هذا النبل، يبرّر أمير ميكيافيلي وأتباعه لأنفسهم ما شاءوا من السلوكيات، حتى عَلوا في ظلمهم وجبروتهم وطوّروا أدوات وأساليب مكرهم، لتصبح اليوم لعنةً عليهم تسير بهم نحو اضمحلالهم، فتزيدهم قرباً لهلاكهم يومًا عن يوم. أما تحرير الأراضي المغتصبة، فقد بدأ بإذن الله على أيدي من صدقوا ما عاهدوا الله، من يرون أنّ الحياة والموت وجهان للوجود، فلا يخيفهم الموت لأنهم على يقين بالوعد الرباني، لأنّ الفناء الدنيوي في سبيل الحقّ ما هو إلّا بداية حياةٍ جديدةٍ ورزقٍ جديد. لا يشعر بهذه الطمأنينة سوى من حكمته قيمٌ سماويةٌ تتجاوز الأهواء والنزعات، قيمٌ تتسق وما يُرضي ربّ السماء.
هذا الاتساق والإيمان والنُّبل هو ما يثبّت يقين شعبٍ أعزل تخلّت عنه الأمم، فيعرف أنّ حربه اليوم جولةٌ من جولاتٍ كثيرة، كلّ جولةٍ تدفعه ليقترب من هدفه أكثر. يقاتل ويجاهد وكلّه يقينٌ بأن عين الله ترعاه ما دامت وجهته هي السماء، وأنّ الله سيريه جبروته فيمن اعتنق لنفسه قيم القتل والدمار والكذب والخيانة والفجور من أجل أن يحافظ على وجوده وبقائه.
No comments:
Post a Comment