Thursday, February 22, 2024

اللغة... ميدان حرب

إقرأ المقالة في مدونات العربي الجديد

 يصف ضيف أحد القنوات الإخبارية ما يحدث في غزة على أنه "تطهير عرقي"، فلا نعير بالًا لهذا التعبير لأننا اعتدنا سماعه، بل ربما استخدمناه نحن وكأنه التعبير المناسب لوصف حالات اعتداء قوة عسكريّة جبّارة على شعب أعزل ضعيف.

هذا واحدٌ من التعابير التي باتت تتكرّر على مسامعنا منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، نسمعه في نشرات الأخبار، ويتردد على ألسنة المحللين السياسيين وضيوف البرامج السياسية، ونقرؤه في الصحافة المكتوبة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. يعبّر هذا المصطلح الملطّف جدًا عن كمّ هائل من الممارساتٍ الفظيعة التي لا تخطر على بال بشر، وصياغته لم تأت عبثًا، إنما هي سلاحٌ من أسلحة الهجوم التي تستخدم في الحروب. أيّ إنّ المصطلح بذاته أداة حربٍ في زمن تعددت فيه ميادين الحروب. فلم تعد تقتصر على الميدان العسكري للقوة والسلاح فحسب، بل تجاوزته لتشمل الميادين الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والتربوية، واللغوية.

إنّ استخدام اللغة الملطفة للتعبير عن السلوكيات الإجرامية ما هي الا أسلوبٌ خبيثٌ لتغليف الحقيقة، ووسيلةٌ ماكرةٌ توحي بأن الواقع أقلّ فظاعةً مما هو عليه بالفعل. ففي كثيرٍ من الأحيان، تُصاغ التعابير بمسحةٍ تميل إلى الإيجابية، فيتحول من خلالها الهجوم الهمجي الشرس إلى "تطهيرٍ للعرق"، مصطلحٌ يفترض أن يشير إلى قتل الأبرياء العزل، وسفك دماء المدنيين، وتشويه حياة من بقى منهم عبر تجويعهم وقتل عائلاتهم وتدمير مأواهم وبتر أطرافهم ثم منعهم عن العلاج بتدمير مستشفياتهم واستهداف أطبائهم، ثمّ إهانتهم وإزالة صفات الإنسانية في الحديث عنهم.

باستخدام أساليب بسيطة، تستبدل الصورة الذهنية الحقيقية بصورة أكثر إيجابية وإنسانية. فعندما يعتاد المشاهد سماع مصطلح "التطهير العرقي" في المقابلات التلفزيونية والإذاعية وفي التحاليل السياسية المسموعة والمقروءة، تتكون لديه صورةٌ للمكان المراد تطهيره على أنه أرضٌ مدنّسةٌ بسبب عرق ما، ويتحول المعتدي إلى بطلٍ لا يملك إلا أن يشنّ حربًا لتطهره من دنس هذا العرق. وبذلك إيحاءٌ بأن المعتدي شريفٌ يقوم بعملٍ نبيلٍ يدافع به عن نفسه وأرضه، بل وقد يتمادى في نفاقه ليخبرنا أنه في حربه يجاهد ليعلي كلمة الحق، وهل هناك من هو بحاجة للتطهير أكثر ممن تملّكه الحقد فشرع في إبادة كل أشكال الحياة والعمران وقتل شعب بأكمله؟

إن الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع

وللتخفيف من الصورة الحقيقية لما يخلفه المعتدي الظالم من سحق للبنى التحتية والمعالم العمرانية والمؤسسات والبساتين والأشجار المعمّرة وجميع مصادر رزق الناس وتلويث مياههم وقتل الغفير منهم، يستخدم مؤيدو الغاصب عبارة "آثار جانبية"، وكأن كل هذا الدمار والخراب جاء عن طريق الخطأ ودون أي تعمد، بل هو ضريبةٌ صغيرةٌ يتكبدها "المُطهّر العرقيّ" جزاءً له على عمله التطهيريّ النبيل؛ وهذه هي الصورة المراد ترسيخها في ذهن المستمع والقارئ. يحجب هذا الاستخدام المعنى الصحيح للعمل الشنيع الذي قام به المعتدي، فيلطف حدّة الآثار المأساوية التي لحقت بالمواطنين وممتلكاتهم وأساسيات حياتهم، ويعمل على تقزيم المعاناة والعذاب الذي سببه لهم  الاعتداء المسلح غير الإنساني.

وأما وصف العلاقة بين طرفين متخاصمين على أنها "صراع" دائرٌ بينهما، ففي ذلك إيحاءٌ بعدم تجانس الطرفين بسبب اختلاف أفكارهم، أو أهدافهم، أو اهتماماتهم. وفي حالات "الصراع" هذه، هناك قابلية للتدخل والإصلاح وبناء السلام بين المتصارعين، بينما الواقع هو أن المحتل، المعتدي، الغاصب، صاحب السلاح المدعوم من أقوى قوى العالم، قد سرق أرض شعب فحرق زيتونها واستباح بساتينها وفجّر بيوتها ودمر مؤسساتها، وسجن من سجن وقتل من قتل وبتر من أطرافهم ما استطاع وحرم من بقي حيًّا من أولادهم و آبائهم وأقرانهم، وانهال عليهم بالصدمة النفسية تلو الصدمة النفسية، فطبع في أذهانهم مشاهد وحشيّةً لن يشفوا منها ما داموا على قيد الحياة.. بالأحرى، فقد حاول منع بوارق الأمل كلها عنهم.

لا نستغرب هذه اللغة المليئة بالكذب والإيحاءات الصادرة عن غاصبٍ أو داعم له، فمن خان الحق والإنسانية والقيم، لن يرف له جفن إذا كذب، بل من المتوقع منه لا أن يفجُر عند المخاصمة فحسب، بل أن يكذب عندما يتحدث. وعليه، فإنّ الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع، وأن لا يشرعوا في تكرار ما يقدمه الآخرون من مصطلحات وتعابير دون فحصها والتأكد من دقتها  لتعكس الحقيقة والواقع، وعلى الجمهور المتلقي أن لا يقبل إلا أن يقدم له ما هو صادق خال من الكذب والخداع.  

Wednesday, February 14, 2024

تعزيز النزاهة الأكاديمية في المؤسسات التربوية

 تأليف: سهام العموش و آمال فرحات

نشر في:  28 كانون الثاني 2024 في موقع مبادرة الشرق الأوسط/جامعة هارفرد

ترجمة: وفاء السكران

مراجعة لارا الخطيب

النزاهة الأكاديمية: المعنى والتعريف

تعرّف منظمة المقاييس والجودة للتعليم الثالثي الاسترالية (TEQSA) النزاهة الأكاديمية ب” ضرورة عمل المعلمين، والطلاب، والباحثين، وجميع أعضاء المجتمع الأكاديمي بما يتفق مع الأمانة، والثقة، والعدالة، والاحترام، وتحمل المسؤولية“. وبالرغم من ذلك، فإن النزاهة  ليست حصرا على المجتمعات الأكاديمية؛ الجميع ملزم، في مرحلة ما أوأخرى من حياتهم، باتخاذ خيارات أدبية أو أخلاقية نبيلة. وقد يسبب هذا الالتزام ضغط على الفرد، حيث أن الاختيارات الأدبية والاخلاقية قد لا تكون مفيدة على الدوام وقد تتعارض مع الأهداف الشخصية.

قيم النزاهة الأكاديمية

تتضمن النزاهة الأكاديمية مجموعة من المبادئ والقيم التي تتطلب منا التصرف بحس المسؤولية، والعدالة، والأمانة، والاحترام (TEQSA 2021). وهذا يعني أن تنهج حياتنا المهنية نهج الأخلاق، ويكون لدينا الشجاعة الكافية لاتخاذ الخيارات الصحيحة، والتصرف بشكل مشرف كعضو في مجتمع. وتدور النزاهة الأكاديمية حول شخصياتنا وكيف نتصرف في المواقف الحاسمة بالرغم من الضغوطات الممارسة علينا.

لماذا النزاهة الأدبية مهمة؟

يعدّ الالتزام بالنزاهة الأدبية في المؤسسات أمرا حيويا حيث أنه يؤكد على العمل المستند إلى الأمانة، والثقة، والاحترام ويضمنه. كما وتعتبر النزاهة الأكاديمية عنصرا حيويا في سلسلة الإمدادات للواجب الأخلاقي في مؤسسات التعليم العالي. ويبني الالتزام بمعايير اخلاقية عالية الثقة بين الأطراف المعنية المختلفة في المؤسسة التي تضمن مصداقية الدرجات والمخرجات الأكاديمية الأخرى للمؤسسة. وكذلك، يعزز بيئة يركز فيها الطلاب، والباحثون، وكافة الأكاديميين على التعلم الحقيقي الذي يعدّ ضروريا للمؤسسة كي تنجح و تكتسب السمعة الطيبة والثقة. ولا ننسى أنه عندما تكون قيم النزاهة الأدبية ذات أولوية، يصبح من المرجح أن يكتسب الطلاب والأكاديميين القيم التي تحفز سلوكياتهم ليس فقط داخل المؤسسة لكن في الأدوار المختلفة التي يؤدونها في حياتهم، والذي بدوره يساعد في ارتقاء مواطنين ذوي أخلاق في الأمة بوجه عام. ومن المرجح أن ترتبط العدالة والمساواة بثقافة المؤسسة. وهذا يضمن أن يحصل الجميع على فرص متساوية و يعاملوا بعدالة.

إنشاء بيئة للنزاهة الأكاديمية

يجب أن يكون المعلمون استباقيي الفعل وليس ذوي ردة فعل في هذا النطاق. ومن الممكن رؤية ذلك في خلق الفرص للنقاش وحل المشكلات قبل ظهور المشكلات والتحديات، وفي إتاحة الوقت لإيجاد خيار مناسب للرد. التالي بعض الممارسات التي قد تدعم تعليم النزاهة الأكاديمية للطلاب وتطبيقها:

  • ابدأ بتعريف المبادئ الأساسية الستة للطلاب حول الأمانة، والاحترام، وتحمل المسؤولية، والعدالة، والجدارة بالثقة، والشجاعة- أو ما يسمى بالقيم العالمية.
  • بالتعاون مع الطلاب والمتبقي من الطاقم التدريسي، عرّف السلوكيات التي تتفق مع القيم المحددة. إحدى الطرق للقيام بذلك كتابة القيم على الجهة اليسرى من ورقة كبيرة الحجم. أضف عمودين، أحدهما للطلاب والآخر للطاقم التدريسي، حيث يحددون السلوكيات المطلوبة، في العمود المخصص لهم، للالتزام بكل قيمة. ويجب على المشاركين مناقشة أهمية تعريف القيم والسلوكيات وكيف يؤثر هذا على عملهم وعلاقاتهم. 
  • أنشئ قواعد سلوك اجتماعية للسلوكيات المرجوة. ويعمل هذا كإطار عمل فعّال للتربويين والطلاب على حد سواء. أولا، يتيح للمعلمين فرصة تحديد وجهات النظر المشتركة للتوقعات الرئيسية و يشجع على السلوك الأخلاقي عندما يتشارك جميع الأفراد فهم ضمني لما هو صواب. بالإضافة إلى ذلك، سيدرك الطلاب أن خرق هذه القيم غير مقبول حتى بين الأقران.
  • ابدأ نقاش غير تزامني عن بعد واتبعه بمناقشة صفية. وقد تشجع رسالة تذكيرية جيدة التوقيت ممارسات الطلاب وتحفزها في كل مهمة أكاديمية، سواء كان ورقة بحث أو نشاط تقييمي. وبالإضافة لذلك، قد يكون من المفيد للطلاب تأمل هذه القيم بعد إنهاء مهامهم لمناقشة ازدياد فهمهم الضمني للقيم في ممارساتهم وازدياد تطبيقها، وبالتركيز على كيفية تغيرهم، و ما هي المعوقات التي واجهوها، وما هي المخاوف التي لديهم. وبالنتيجة، يستطيع الطلاب اقتراح تعديلات على الممارسات وبذلك يتجهون للقيم بشكل أفضل. قد يكون هذا ذو فائدة كبيرة نحو اتفاق جماعي. 
  • يعدّ الإبقاء على ممارسة هذه القيم للمعلمين أمرا ضروريا، ذلك يجب أن يمثل التربويون نموذجا للسلوكيات المأمولة من الطلاب. يضع هذا معايير للطلاب و يمنحهم  فرصة لرؤية السلوك المطلوب.

خلاصة القول فإن المعلمون مسؤولون عن خلق ثقافة للنزاهة الأكاديمية التي تسهل تعلم الطلاب و تضمن أن الدرجات التي يحصلون عليها تعكس مستواهم الحقيقي وأن الشهادات هي انعكاس معرفتهم وقدراتهم.

تعزيز النزاهة الأكاديمية في عصر الذكاء الاصطناعي (AI) 

مع التطور الهائل في أدوات الذكاء الاصطناعي و سهولة استخدام الطلاب لها لتكوين الواجب المدرسي، أصبح من الضروري خلق ثقافة النزاهة بين الطلاب ومساعدتهم على المشاركة في ممارسات تنطلق من القيم العالمية المحددة مسبقا. يحتاج التربويون مناقشة الطلاب حول نقاط التقاطع بين النزاهة الأكاديمية وفائدة أدوات الذكاء الاصطناعي، وما السياسة التي من الواجب الالتزام بها عند القيام بكل وظيفة مدرسية أو مهمة أكاديمية. و كممارسة فضلى، يجب أن يبدأ المعلمون المنهاج وشرح لطلابهم الى أي درجة يسمح لهم استخدام الذكاء الاصطناعي، و كيفية ربط استخدامه بالنزاهة. ويجب إعادة النظر في  هذه السياسة و مناقشتها قبل كل مهمة مدرسية.

لتحديد إذا كان باستطاعة الطلاب استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي للقيام بمهمة مدرسية، فيجب أن يربط المعلمون معايير المهمة المدرسية بأهداف التعلم و توضيح ما يمكن أن ينتجه الطلاب باستخدام الذكاء الاصطناعي. ويجب شرح معايير التقويم والأخذ بعين الاعتبار استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. وقد يطلب من الطلاب تأمل عملية القيام بالمهمة الدراسية كخطوة إضافية. يمكن أن يساعد تطبيق تأمل العملية كممارسة الطلاب على التفكير الناقد حول أعمالهم الخاصة بهم و الدور الذي لعبه الذكاء الاصطناعي أثناء العملية.

بالإضافة الى وضع سياسة و توقعات متعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي بوضوح كبير، فإنه من الضروري أن يحدّث المعلمون منهجيات التدريس لديهم وأن يبتكروا مهام مدرسية تعزز تجربة تربوية هادفة للطلاب وذلك لأنهم لا يمكنهم الاعتماد بشكل كلي على الذكاء الاصطناعي. التالي بعض التوصيات المفيدة في هذا الصدد:

  • تطبيق التعلم المبني على المشاريع ليمارس الطلاب مهارات التفكير العليا.
  • تضمين تأمل الطلاب للنتاجات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي.
  • دمج عنصر التأمل الذاتي في تقويم الطلاب.

وأخيراً، من الضروري تقييم الطلاب بناءا على العملية وليس فقط المنتج. سوف يعزز هذا نقاش الطلاب حول تطورهم أثناء عملية الكتابة.

مصادر

https://www.teqsa.gov.au/students/understanding-academic-integrity/what-academic-integrity

https://www.monash.edu/student-academic-success/maintain-academic-integrity/what-is-academic-integrity-and-why-is-it-important#tabs__2816746-03

Sunday, February 4, 2024

مدينة بلا زهور

إقرأ المقال في مدونات العربي الجديد

زرت منذ مدة إحدى المدن الكبيرة العريقة، مدينةٌ تعجّ بالحركة والحياة؛ طرقاتها مكتظة بالمشاة والسيارات والدراجات والتوكتوك والبائعين، ومحالها ومقاهيها ومطاعمها تزخر بالزبائن.. وفي الخلفية أصوات المدينة تنظُمها أبواق الحافلات، وضجيج الناس، والموسيقى الصاخبة الصادحة من كلّ حدبٍ وصوب.

تُجالس أناس هذه المدينة النشيطة وترتاح لفيضِ طيبتهم ونقائهم وكرمهم، وبساطة سلوكهم ومزاحهم وضحكاتهم، إلّا أنّ مدينتهم خاليةٌ من الزهور! تتجوّل في طرقات هذه المدينة فلا ترى زهرة واحدة، بريّة كانت أو منزلية. مدينة رماديّةٌ خالية من الألوان. عجيب أمر هذه المدينة! ألا يحتاج أهلها بعض الجمال ليخفّف عنهم شيئاً من عبءِ الحياة وقسوتها؟

تأخذي تساؤلاتي إلى الدوحة التي أعيش فيها، إلى جمالِ الزهور التي تحيط بالمنازل رغم طبيعة البلاد الصحراوية؛ ثمّ أسرح فأصل إلى أوتاوا الكندية التي أمضيت فيها جزءاً لا بأس به من حياتي، فأستذكر كيف يُسارع الناس إلى زراعة الزهور المتنوّعة ليتمتّعوا بجمالها ما أمكنهم خلال أشهر الصيف القصيرة، قبل عودة الصقيع القطبي الذي يقضي على كلّ ما زرعوه في الصيف.

تأخذني الذاكرة إلى ضيعتي اللبنانية الصغيرة، إلى الرفيد، التي تتنافس نساؤها في تجميل بيوتهن من الداخل والخارج بالأزهار والوورد، بعضها محلّي وبعضها الآخر مستورد. ففي كلّ واحدةٍ من هذه الأماكن المحبّبة إلى قلبي يسعى الجميع، كلٌّ على طريقته، لجعلِ المنظر العامّ جميلاً من خلال زراعة الزهور، ونشرِ الألوان في محيطِ بيوتهم، ليساهموا بذلك في صناعة الجمال الكلّي لمدينتهم أو بلدتهم.

ويفرض السؤال نفسه هنا: ما الذي يصرف اهتمامَ كامل سكان مدينة ما عن العناية بجمال المحيط الذي يقطنون فيه؟ لماذا هذا الانفصال التامّ بين المواطن والمساحة، فلا يبالي بغرسِ نبتةٍ في محيط منزله تُضفي بعضًا من الخضرة والجمال والأناقة على بيته وحارته؟ ليس انعدام الزهور في مدينة بأكملها مجرّد إهمال بشري لعنصرٍ جمالي طبيعي، بل هو مؤّشر لما هو أعمق بكثير: قد يكون ذلك انعدام شعور المواطن بالانتماء للمكان الذي يعيش فيه، أو غياب إحساسه بالأمن والأمان في محيطه، أو قد يكون ردّة فعل منه على مدينته التي أهملته وتجاهلت حاجته للحماية والراحة والاهتمام!

ما الذي يصرف اهتمام كامل سكان مدينة ما عن العناية بجمال المحيط الذي يقطنون فيه؟

أحبّ المشي، ومن عادتي أن أمشي بضع كيلومترات يومياً، لكنّ شبح الحذر والخوف لا يكفّ عن مطاردتي بينما أمشي في الشوارع الضيّقة غير المعبّدة لهذه المدينة الشاحبة. أمشي خائفةً من الوقوع بسبب حجر يعترضني، أو حفرة تفاجئني، أو سيارة اختار سائقها أن يسبقني بينما أهمّ باجتياز الطريق ضارباً عرض الحائط مبدأ "الأولوية للمشاة".

يتجاهل أصحاب المحالّ التجارية حاجة المشاة إلى رصيف يطمئنّون للمشي عليه، فيجتاحونه لتوسعة محالّهم ومقاهيهم، أو يبذرون النفايات عليه وينشرونها في المساحات الفارغة هنا وهناك. ثم ترى محاولة بائسةً من هيئة الأشغال العامة لإنشاء جسر يُيسّر حركة السيارات، لكن الجلي أنه لن يُستكمل في المدى المنظور، وهو ما تشي به قضبان الحديد المغلّفة بالصدأ والغبار المستخدمة في بنائه، ما يزيد من خطورة تحرّك المشاة والسائقين ويعطي بُعداً آخر لشحوبِ المكان مؤكّداً إهمال الفضاء.

السيارات والحافلات والدراجات الهوائية والنارية والأفراد وبعض الحيوانات، كلّهم يسيرون في الطريق ذاته دون أيّة ضوابط تحكم كيفية سيرهم. أصوات متداخلة، وزمامير من آليات النقل والسيارات، ومكبّرات الصوت في المقاهي، وصراخ البائعين... تمشي في الطريق وتدعو الله أن تنجو في خضم تلك الفوضى والتشوّش والضوضاء. كلّ هذا انعكاسٌ لعدم إيلاء السلطات المسؤولة أيّ اهتمام بالجانب الجمالي في المساحات العامة وجعلها آمنة ومحبّبة للعيش.  

عندما تهتم السلطات بالأماكن العامة من خلال توفير الخدمات، كخدمات تنظيم السير وتنظيف الشوارع والأرصفة أو توفير المساحات الواسعة والنظيفة والآمنة لتيسير حركة السكّان، وعندما تُفرض القوانين لتشجّع الأفراد على السلوك الذي يجعل حياتهم أكثر انتظاماً، عندها تدب الروح في المدينة، فتنبض بالحياة وتنتعش. وينعكس ذلك على المواطن، فيشعر هو الآخر بالأمان لوجود من هو مسؤول عن رفاهه وسعادته، وتتوّطد العلاقة بينه وبين محيطه، فيزيد فخره بانتمائه إليه، ما يدفعه ليساهم في جعلِ المكان أكثر جمالاً ورونقاً. 

ليس انعدام الزهور في مدينة بأكملها مجرّد إهمال بشري لعنصرٍ جمالي طبيعي، بل هو مؤشر لما هو أعمق بكثير

العلاقة بين المدينة والقاطنين فيها علاقة وطيدة، فالمدينة التي تنعم بالاهتمام من أولي الأمر تُشعر قاطنيها بالانتماء، ولذلك يقع على عاتق المسؤولين أمر العناية بالمساحات العامة، وتقديم الخدمات اللازمة لتجعل المواطن فخوراً بالمكان الذي ينتمي إليه. وإذا حصل ذلك، فمن المؤكد أنّ هؤلاء القاطنين سيولون مسألة الاهتمام بمحيطهم وتجميله الأهمية اللازمة. وعندها فقط تبدأ الألوان والزهور بالانتشار، لتُضفي روحاً على المدينة وتجعلها تتألق فتسر أهلها، وأيضًا القادمين إليها. 

الإنسان بطبيعته يحب الجمال ويأنس له، ويشعر بالأمان والراحة في الأماكن الجميلة، فمن الظلم ألّا تُولي السلطات الاهتمام بالمساحات العامة، لأنّها بذلك تحوّل أي مكانٍ إلى فضاءٍ بائس يقطنه من لا يهتم لجماله. فمكانٌ خالٍ من الزهور هو مكان خالٍ من الجمال.