Wednesday, February 12, 2025

أهل غزة.. محن متتالية تجعلهم أكثر متانة


 

"ترامب بدّه يهجر أهل غزة"، يقولها شاب غزّي بملامحه المرتاحة، وابتسامته الصادقة أمام عدسة المصوّر، ثمّ يغرق في ضحكٍ ساخر متواصل، ويتابع "ولك أهل غزة قاعدين يحفروا بير مي، ورجعوا يبنوها من أول وجديد".

هنا تجد نفسك، بسبب براءة ضحكة المتحدّث، تبتسم، وربما تضحك لا إرادياً، ضحكة تسعدك وتبثّ فيك روح التحدّي والاعتزاز. ثمّ يجول المصوّر بعدسته ليلتقط صور دمار البيوت والخيام التي تؤوي بقايا العائلات من المطر والصقيع لتصل إلى امرأة تخاطب عدوّها من خلال مكبّر صوت الصحافي: "ذبحتونا، ماهمناش، قتلتونا، ما همناش، شرّدتونا، ما همناش"، وبكلّ طمأنينة ورضى تختم بـ "عملتوا فينا البدع، لكن الحمد لله صامدين".

هذه بعض الأمثلة التي تجعل العالم كلّه يتساءل عن سرّ هذه القوّة، وعمّا يعطي الحافز والمثابرة والإصرار لشعب لم تلتئم جراحه، ولم يستعد حياته العادية، ولم يتسنّ له النهوض من تحت الركام، بل ما زال عدّوه يطلّ عليه، بلسان رئيس أعتى دولة في العالم، بالتهديد والوعيد ليقول له: سأشرّدك من أرضك، وأتابع تشويه حياتك، والقضاء على ما بقي من عنفوانك! وفي تهديده الآن يبدو أكثر شراسة من أيّ وقت مضى، بل ويحظى بجوقة "أوبرالية" تنعق بما يقوله من تهديد لشعب خسر كلّ مقوّمات البقاء. 

ما الذي يجعل شعباً عانى كلّ هذه السنين متشبّثاً بأرضه، ثمّ شهد لمدة 476 يومًا القصف والدمار والقتل وخسران الممتلكات والأهل والأولاد والأصحاب ومصادر الرزق، يخرج من كلّ هذا الأذى ويتحدّى بلغة الواثق المطمئن أنّه لن يُهزم ولن يخضع لرغبات عدوّه مهما توعّد وتجبّر؟

في تاريخ الأمم، نجد أنّ القوي هو من يُبادر بالاعتداء على الضعيف، بدءًا من غزو الإمبراطورية الرومانية لدول أوروبية وأفريقية وآسيوية بهدف التوسّع، مرورًا بقضاء إسبانيا على حضارة الآزتك، إلى عالمنا المعاصر حيث اعتدت روسيا على أفغانستان، وأميركا على العراق، وإسرائيل على فلسطين ولبنان. في الحالات هذه، لم نشهد أنّ الضعيف طلب الحرب أو بادر بسلوكياتٍ تثير المشكلات مع الجهة القوّية، بل على العكس، دائمًا شهدنا الجانب القويّ يكتب السيناريوهات التي تظهره على أنّه صاحب الحقّ، ويصنع لنفسه عدواً ضعيفاً يظهره على أنّه مصدر الشرّ الذي يجب القضاء عليه ليجنّب نفسه، وأحياناً العالم، من شرّه. ومع أنّ هذا السيناريو لا يقنع أحداً لسذاجته وعدم واقعيّته، إلا أنّ العالم يتصرّف كالمشاهد لحلبة صراع، يصفّق للقوي المتسلّط، ويندّد بالمسالم الضعيف الذي لم يكن له رأي في الاندماج بهذا الصراع من الأصل.

ثم يُوضع ذلك المستضعف في حلبة الصراع مضطراً للدّفاع عن نفسه، فيما يستمرّ القوي بتجييش المؤيّدين له والبحث عن المزيد من الأنصار، ويتابع في صعق ذلك المستضعف ليقع مراراً وتكراراً إلى أن يصبح في حالةِ ضعف وإنهاك حتى يظنّ العالم أنه هلك، ليفاجئنا أنّه نهض من ضعفه واستعاد عافيته، بل أصبح أكثر قوّة ممّا كان عليه، ليتكرّر مشهد الصراع من جديد، وهو في كل مرّة يستعيد عافيته، وفي كلّ جولة ينهض أكثر قوّة وأمضى عزيمة من الجولة التي سبقتها. وما نعرفه في عالم الرياضة أنّ الجمهور جزء من المعركة، وأنّ التشجيع عنصر مهمّ في قوّة عزيمة اللاعبين وتحقيق فوز الفريق، إلا أنّ الفريق المستضعف في غزّة يخوض معركته من دون أن يجد من يصفّق له أو يدعم صموده، بل العالم المتفرّج في حالة نكران للحقّ الواضح لكلّ ذي قدرة على الفهم والتدبّر، وهو مع ذلك كلّه يقفز ذلك المستضعف من تحت الركام الهائل وينهض من تحت الرماد مؤكّداً أنّه صاحب الحقّ الذي لا يموت.

هكذا هو شعب غزّة المستضعف، يزداد قوّة مع كلّ جولة من جولات صراعه مهمّا كانت خسارته، إلى أن يصبح قتله صعباً، ويتحوّل القضاء عليه إلى عملية مستحيلة. وهذا ما أشار إليه المفكّر نسيم نيكولاس طالب، من أنّ هناك من يضعفهم الأذى ويصيبهم بالهشاشة، وآخرين يقاومون الأذى من دون الإصابة بالوهن والضعف، فهم أقوياء قادرون على التحمّل. أمّا الصنف الذي يفاجئنا فهو شعب غزّة الأبيّة الذي يصنع منه الأذى شعباً لا يُقهر، وقوّة لا يمنعها أيّ قهر عن التشبّث بالأرض، والتمسّك بالحياة، والقدرة على التحمّل ومواجهة الموت وكلّ أنواع التحدّي. هؤلاء الذين يصفهم طالب بالمضادين للهشاشة، يتمتعون بالمتانة، وهم ليسوا بأقوياء فحسب، بل في قوّة تتزايد باضطراد مع تزايد الأذى الذي يتعرّضون له.

وهذه الضدّية للهشاشة هي ما يجسّده ذلك الشاب المبتسم المستهزئ برئيس أعتى دولة في العالم، وتلك المرأة التي تخاطب عدوّها المتسلّط الجبار. لينضمّ إليهما من يؤكّد أنّه ليست هناك قوّة تستطيع اقتلاعهم من أرضهم، "مش احنا اللي نرحل، احنا أصحاب البلاد"، وآخر يشبه شعبه بشجر الصنوبر، "جذورنا بالأرض، تحت، تحت"، ومن هو واثق من أنّ ليس من قوّة ستقضي عليه مردّداً، "سأبقى أنا من بعد أبي، وسيبقى ولدي من بعدنا". هؤلاء من استبعدهم العالم كلّه، فاتخذوا غزّة لهم عالما، دافعوا عنها، فأصبحت حصنهم المتين، وبرجهم العالي ومصدر قوتهم وسرّ حياتهم التي لا تموت.

Friday, January 31, 2025

عندما تَحكُم السماء


تحدّد الجماعات والمؤسسات قيمها الحاكمة لتكون بمثابة الحامي لتصرّفات وقرارات أفرادها، ما يضمن عدم انحرافهم عن المبادئ والقناعات الأخلاقية، فيساهم بالتالي في توجيه جهودها ومساعيها نحو تحقيق الأهداف والرؤى التي تصبو إليها. على النقيض من ذلك، نجد المبدأ الذي أسّس له الفيلسوف السياسي نيكولا ميكيافيلي في أهم أعماله، كتاب "الأمير"، حيث يحثّ السياسيين على الوصول إلى مكتسباتهم السياسية والمحافظة عليها بكلّ السُّبل والسلوكيات المتاحة، حتى وإن تنافت مع الأخلاقيات وخرقت المقبول. هذا المبدأ هو وراء مقولة "الهدف يبرّر الوسيلة"، ذلك المفهوم البراغماتي البارد الذي يحرّك سياسات العالم وديناميكياته. 

لكننا اليوم نجد أنفسنا أمام نموذجٍ مخالفٍ بالكامل لتعاليم أحد أهم المؤسسين للفكر السياسي المعاصر. هذا النموذج استسقى قيمه من السماء وربط رؤيته بربّ السماء، فحكمت قيمٌ سماويةٌ سلوكَ وخِطط وقرارات أهل الأرض، تلك الأرض المُحَاربة من كلّ حدبٍ وصوب، فكانت رؤيتهم ربانيةً لا تزعزعها مغرياتُ وأطماع حياةٍ زائلةٍ فانية. 

هذا الارتباط الرباني يتجسّد في طمأنينة أمٍ تجمع رفات وحيدها في كيس، حامدةً ربها، مستغيثةً به أن يصبِّرها على مصابها، وفي فخر شابٍ صغيرٍ عثر على كرسيٍّ برتقاليٍّ في بيته المدمّر فاحتفظ به لأنه الكرسي الذي، كما شاهد في فيديوهات وسائل التواصل الاجتماعي، جلس عليه أحد أهم المدافعين عن أرضه في لحظاته الأخيرة قبل ارتقائه. يتجسّد الارتباط الرباني في محاربين يعاملون أسرى عدوّهم المنافق الغدّار بأرقى درجات التعامل الإنساني النبيل لأنهم شرفاء، والنبل من شيم الشرفاء، فلا يستقوي نبيلٌ على أسيرٍ ضعيفٍ في حالات انكساره.

القيم التي تحكم سلوك أصحاب الأرض العُزّل هي التي تعطيهم الطمأنينة والثبات والصبر والمثابرة في مضيّهم نحو رؤيتهم. هذه القيم التي تحكم سلوك أصحاب الأرض العُزّل إنّما هي التي تعطيهم الطمأنينة والثبات والصبر والمثابرة في مضيّهم نحو رؤيتهم، وهم يعرفون يقينًا أنّ دربهم دربٌ طويلٌ وعر. لقد اختاروا لأنفسهم أهدافًا نبيلة، وأبوا إلا أن تكون سلوكياتهم وقراراتهم متسقةً معها مهما تطلّب ذلك من صبرٍ وجهادٍ في ظروف قاسيةٍ ومواجهاتٍ شرسةٍ ومصائب جليلة. في مقابل هذا النبل، يبرّر أمير ميكيافيلي وأتباعه لأنفسهم ما شاءوا من السلوكيات، حتى عَلوا في ظلمهم وجبروتهم وطوّروا أدوات وأساليب مكرهم، لتصبح اليوم لعنةً عليهم تسير بهم نحو اضمحلالهم، فتزيدهم قرباً لهلاكهم يومًا عن يوم. أما تحرير الأراضي المغتصبة، فقد بدأ بإذن الله على أيدي من صدقوا ما عاهدوا الله، من يرون أنّ الحياة والموت وجهان للوجود، فلا يخيفهم الموت لأنهم على يقين بالوعد الرباني، لأنّ الفناء الدنيوي في سبيل الحقّ ما هو إلّا بداية حياةٍ جديدةٍ ورزقٍ جديد. لا يشعر بهذه الطمأنينة سوى من حكمته قيمٌ سماويةٌ تتجاوز الأهواء والنزعات، قيمٌ تتسق وما يُرضي ربّ السماء.

هذا الاتساق والإيمان والنُّبل هو ما يثبّت يقين شعبٍ أعزل تخلّت عنه الأمم، فيعرف أنّ حربه اليوم جولةٌ من جولاتٍ كثيرة، كلّ جولةٍ تدفعه ليقترب من هدفه أكثر. يقاتل ويجاهد وكلّه يقينٌ بأن عين الله ترعاه ما دامت وجهته هي السماء، وأنّ الله سيريه جبروته فيمن اعتنق لنفسه قيم القتل والدمار والكذب والخيانة والفجور من أجل أن يحافظ على وجوده وبقائه.

Friday, October 4, 2024

ماذا يعني أن تكون لبنانياً؟

تقرأون المقال في  العربي الجديد 


أتابع وعائلتي رحلة ابنتنا إلى تركيا لتلتحق بجامعتها بعد إجازة أمضتها في لبنان، ولكنّ الرحلة كانت مختلفةً هذه المرة. أجبرت الحرب الشرسة ابنتي على السفر باكرًا قبل انتهاء إجازتها، لتغادر لبنان برًّا عبر سوريا، فالأردن، ومن هناك جوًّا إلى تركيا، في رحلةٍ مرهقةٍ وخطّ سيرٍ طويلٍ عسير؛ رحلةٌ تخللتها ساعاتٌ وساعاتٌ من الانتظار عند كل نقطةٍ حدودية. وبينما أنا في خضم قلقي خلال رحلة ابنتي، أحمل الهاتف لعلّ رسالةً تصلني فتطمئنني على اجتيازها الحواجز إلى برّ الأمان، اقتربت مني أصغر بناتي التي التحقت بالجامعة مطلع هذا العام لتقول إنها تخشى أن لا تكون قويةً مثل إخوتها لأنها تعيش في مدينةٍ آمنة، تأخذها أمها كلّ صباحٍ إلى صفوفها ثمّ تعيدها إلى المنزل آخر النهار. هي التي عاينت منذ صغرها المعاناة التي مرّ بها كلٌّ من إخوتها الذين سبقوها خلال دراستهم بسبب التوترات المتعددة التي مرّ بها بلدنا، لتصبح رحلة الطالب إلى جامعته أشبه بتوغلٍ غامضٍ وسط الأدغال: لا يعرف من أين تعترضه المصاعب ومتى تحيط به المخاطر.

استعرضت في ذهني شريط المخاوف التي مررت بها منذ صغري. ذهبت بي ذاكرتي إلى الثمانينيات، حين كنا نختبئ جماعيًا، أنا وعائلتي الممتدة وأناس حارتنا، في بيت جدّي، ذلك الحصن المتين ذو الحجارة الكبيرة، حتى جاءنا خبر وصول جنود الاحتلال إلى بلدتنا. وبحشرية طفلةٍ صغيرة، تجاوزتُ مخاوفي وخرجت إلى باحة بيت جدي، فرأيت مراكب كبيرةً غريبة، دباباتٌ في أعالي تلال البلدة تتجه نحو حيّنا، وعليها مخلوقاتٌ غريبةٌ تلبس قبعات خضراء تشبه البطيخ على رؤوسها. ومع اقتراب المراكب الكبيرة تعتليها المخلوقات الغريبة، تبين لي أنّهم بشر! لهم رؤؤس عاديّةٌ مثل رؤوس البشر، ووجوهٌ وأيدٍ وأرجلٌ، لأتيقن أنهم ليسوا مخلوقاتٍ فضائيةً ترتدي قبعاتٍ من قشر البطيخ كما رأيتهم مسبقًا.

وبعد لحظة الإدراك تلك، صرت أرى عدوّنا البشري يمارس سلوكياتٍ غير بشرية. حاصر الجنود بيوتنا وقيّدوا حركتنا ومنعونا عن مدارسنا، اقتحموا بيوتنا بهمجيّةٍ باحثين عن أيّ دليلٍ ليستخدموه ضدّ شبابنا، ثمّ اقتادوا الشباب إلى ساحة البلدة ليستجوبوهم عما لم يفعلوه ويمارسوا نرجسيتهم عليهم.

حاصر الجنود بيوتنا وقيّدوا حركتنا ومنعونا من مدارسنا، اقتحموا بيوتنا بهمجيّةٍ باحثين عن أيّ دليلٍ ليستخدموه ضدّ شبابنا

ثم مرّت السنون الطوال، وفرحنا بخروج العدوّ من منطقتنا، ورحنا نحتفل على الطرقات التي حُرمنا من السير عليها لسنوات. ولكن سرعان ما امتزجت تلك الفرحة باللوعة مما رأيناه من دمارٍ، وما سمعناه عن الألغام التي ظلّت مزروعةً في حقولنا  تقتل الأبرياء، وكأن العدو أراد أن يستمرّ في خطف أكبر قدر من الأرواح  حتى بعد رحيله ليوجع من بقوا على قيد الحياة.

وبالفعل، وحتى يومنا هذا، ما زالت أيادي ذلك العدو تعبث بحياة اللبناني ومشاعره وأمنه بافتعال خلطاتٍ عجيبة من الحروب الحامية والباردة، الناعمة الخفية والقاسية المحسوسة، فقد عانى اللبناني لعقودٍ من آثار الاغتيالات والحروب والمشكلات الداخلية والاقتصادية والتفجيرات والفراغ السياسي والثورات والتفرقة، إلى أن وصلنا إلى ما عليه الآن: قتلٌ وذعرٌ ونزوحٌ وتهجيرٌ... وتشويهٌ للحياة. وها هو التاريخ اليوم يعيد ذكريات الأمس، فلا يتسنى لنا أن نلتقط أنفاسنا بعد كلّ محنةٍ، حتى نجد البلاد والعباد وقد قذفوا في محنةٍ جديد، وكل مأزقٍ يتجاوز بحدته وأذاه المآزق التي سبقته، إلى أن أصبحت المآزق تُدار عن بعد بالذكاءات الاصطناعية لتضاعف من خطورتها وأذاها. 

مع أني أسكن الآن في بلدٍ آمن، إلا أن شبح الخوف يلاحقني في كل لحظة. أخاف على أحبائي وأصدقائي وعائلتي الذين يعيشون داخل غلافٍ من المجازر المتلاحقة، يتلمسون حياتهم بين الخراب والدمار، ينامون على أصوات الغارات ويتابعون أيّامهم على طنين طائرات الاستطلاع، لا يعرف الواحد منهم مصيره في اللحظة القادمة. وأنا هنا في أماني، يهبط قلبي كلما سمعت صوت طائرةٍ مدنية في سماء المدينة، أو جلبة آليات إصلاح الطرق وبناء البيوت، فأخجل من نفسي عندما أستذكر أن هذه الأصوات هي أضعاف مضاعفة على شعب بلدي بأكمله، ولكنها عندهم أصوات طائراتٍ وقذائف ومسيّراتٍ أعدت للدمار والقضاء على الحياة. وفي الوقت الذي لا أستطيع فيه النوم بسبب الأخبار التي لا أنقطع عن متابعتها، أعرف أن بلدي وأهله هم الخبر بذاته.

كل هذا يجعلني أتساءل: هل بالفعل يجب أن تقترن حياة اللبناني بالخوف والمشقة؟ هل تنتقص لبنانيته إذا عاش في أمن وأمان؟ وهل الدروس الحياتيّة لطالبة جامعية تظلّ ناقصةً إذا لم تكن مشبعةً بالمخاطر؟

أعود لصغيرتي: لا يا عزيزتي، لست بحاجةٍ لأن تعيشي الخوف حتى تصبحي قويّة، بل لا يستحق أيٌّ منا أن يعيش الذعر والحرمان، ولا يستحق أولادنا أن يعيشوا ما عشناه نحن سابقًا. الله كرّمنا، والحياة الحرة الكريمة الآمنة هي ما نستحقه، والهلاك، الهلاك لكل من يحاول أن ينتزع تلك الكرامة منا.

Wednesday, May 8, 2024

انتفاضةُ الجامعات... الأسباب والدوافع

تقرأون المقالة في  العربي الجديد 

فاجأنا طلابُ الجامعات الأميركية بتحرّكهم الداعم لغزّة، الرافض للمجازر بحقّها، والمُطالب بوقفِ دعمِ هذه الجامعات للمؤسّسات الإسرائيلية أو التعاون معها، بل يدعو الطلاب إلى تكوين شراكاتٍ مع الجامعات الفلسطينية، وتعزيز التواصل، وتنسيق العلاقات مع طلّابها. 

نعجب لهذه التحرّكات في الجامعات الأميركية، ويزداد عجبُنا حين نراها في الجامعات النخبوية ومعاقل التميّز و"البريستيج"، أي أنّ طلابها يتمتّعون بعيشٍ رغيد، ولا تربطهم أيّة اهتمامات بشعبٍ أعزل يُعاني كلّ أشكالِ عذاباتِ الحياة. وهذا ما يثير تساؤلاتنا حول دوافع هؤلاء الطلاب في مناصرةِ أهدافٍ إنسانيةٍ لا تقع ضمن مصالحهم، بل تتعارض ومصالح آبائهم ومؤسّساتهم والطبقة السياسية التي ينتمون إليها. أضف إلى ذلك، أنّه لا رابط ثقافياً، ولا دينياً أو جغرافياً، مع الفلسطيني الذي يهتفون من أجل تحرّره ورفع الظلم عنه، وإعادة تموضعه على خريطة العالم بعدما تناسته أكثر الشعوب التصاقاً به. 

قد نفهم ما يحصل في هذه الجامعات إذا عُدنا لنظرية "إعادة الإنتاج الاجتماعي" لبيير بورديو الذي يرى أنّ النظام التعليمي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الاجتماعي، فالنظام التعليمي يعيدُ إنتاجَ طلّابه ليعودوا إلى الطبقاتِ الاجتماعية التي أتوا منها. هذا يعني أنّ المدرسة تُربّي أبناء الطبقات المسحوقة ليعودوا ويتموضعوا داخل طبقاتهم الاجتماعية، كما أنّها تربّي أبناء الطبقات البرجوازية ليعودوا ويتموضعوا فيها. ولمعرفة كيف يحصل ذلك، علينا أن نفهم دورة التعليم في هذه المؤسّسات، وكيف يتمّ بناء المعرفة وتشكيل الوعي، وذلك ما يمكن أن نرصده في ما يلي:

- إنّ تلك الجامعات المرموقة غير مُتاحة في معظمِ الأحيان لمن هم خارج نطاق الامتياز والثروة، وغالباً ما يكون طلّابها من أبناء المجموعات المهيمنة التي ورثت امتيازاتها عبر الأجيال. وبما أنّهم أفراد نخبويّون، فهم يتمتّعون بالمعرفةِ والمهاراتِ والتصرّفاتِ التي تمنحهم مزايا اجتماعية، وهم الذين درسوا في مؤسّساتٍ تستهدفُ تعزيز تفكيرهم النقدي، من خلال العديد من الأنشطة اللامنهجية التي تتضمّنها مناهج هذه المؤسّسات، فضلاً عمّا تُتيحه لهم من شبكاتٍ اجتماعيةٍ تُساهم في تعميقِ فهمهم لعالمهم وديناميكيته ومكانتهم فيه. 

النظام التعليمي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظامِ الاجتماعي، فالنظام التعليمي يعيدُ إنتاجَ طلّابِه ليعودوا إلى الطبقات الاجتماعية التي أتوا منها

- ويتمتع هؤلاء الطلبة بالتعلّم ضمن مناهج تعليمية مخصّصة لذوي الامتيازات، وهي مناهج تعمل على غرس قيمٍ مجتمعية وعاداتٍ ذهنية تركز على التفكير النقدي والإبداعي والريادي، وهذه كلّها ضرورية للتعامل مع أنظمة السلطة والامتيازات، وتأهيل الطلاب لمواقعهم المنتظرة بعد تخرّجهم من جامعاتهم، تلك المواقع التي رُسِمتْ لهم، فهم يرثونها عن آبائهم، وغالباً ما يكون لهم فيها أدوارٌ تسمح لهم بالتأثير على المستوى الكلّي للأنظمة والسياسات والتلاعب بها. بتعبيرٍ آخر، هم مشاريع القادة وصنّاع القرار والسياسات في المؤسسات، سواء أكانت هذه المؤسسات اجتماعية، أم سياسية، أم أكاديمية، أم عسكرية. 

- هذا النظام التعليمي الذي يتمتّع به طلّاب الجامعات المرموقة يشجّعهم على مُساءلةِ السلطات، وتحدّي النماذج الجاهزة في المؤسّسات، ويدفعهم إلى عدم قبول الأمور كما تُقدّم إليهم. في المقابل، هناك طلّاب الطبقة العاملة الذين لا يتمتّعون برأسمالٍ ثقافي يبنون عليه تجاربهم العلمية، وكثيراً ما نراهم يخضعون لتجارب تعليميةٍ تُنمّي فيهم الطاعة والقبول، أكثر مما تصنع فيهم النقد أو الاعتراض! ويعود ذلك، بشكلٍ كبير، إلى المؤسّسات التعليمية التي يتلقون فيها علومهم، وهي مؤسّسات لا تتوفّر فيها الموارد، ولا تفتح لهم من خلالها أبواب الفرص، حيث تطغى على طرق التدريس أساليب الحفظِ والتكرار، مع فرصٍ قليلة للإبداع والتحليل والنقد وحلّ المشكلات، والتي، إنْ وُجِدتْ، تكون محصورةً في نشاطاتٍ محدودةٍ غير متجسّدةٍ في النظامِ التعليمي بشكلٍ عميقٍ ومتكامل.

هل من المقبول في عصر الاتصالات وثورات الانفتاح أن يبقى طلّاب جامعاتنا أسرى عمليةِ إعادةِ إنتاجٍ اجتماعي لا إرادي؟ 

ونعود لما يحصل في باحات الجامعات الأميركية لنرى أنّه نتاج أنظمةٍ تعليميةٍ هيّأت طلابها ليفكروا ويتفكّروا بما يحصل في العالم، وليتساءلوا عن مشروعيته ويقيّموه وينتقدوه. لذلك أخذوا على عاتقهم نصرة الفلسطيني المهمّش الذي لا تربطهم به أيّة روابط، والذي اتخذته سلطاتهم ومؤسّساتهم عدوّاً لها. إلا أنّ هؤلاء الطلاب يشتركون مع الشعب الفلسطيني في أنّهم قرّروا تبني مبادئ الحرية والمساواة والإصرار، فتشابهت أهدافهم وإن اختلفتْ منطلقاتهم.

بدأت المظاهرات المندّدة بالجرائم الإسرائيلية، المنادية بالحرّية للشعب الفلسطيني، في الجامعاتِ الأميركية حصراً، لتصل أصداؤها إلى جامعاتٍ شبيهةٍ حول العالم. لكن، هل من المقبول ألّا نرى لها مثيلاً في جامعاتنا العربية؟ هل يجوز أن يبقى طلّاب الجامعات التي لا تتمتّع بالامتياز راضخين لحتمية أنّهم لم يتلقوا تعليماً يُنمّي فيهم مهارات التفكير العليا والقيم الحياتية الكبرى؟ وهل من المقبول في عصرِ الاتصالات وثورات الانفتاح أن يبقى طلّاب جامعاتنا أسرى عمليةِ إعادةِ إنتاجٍ اجتماعي لا إرادي؟ 

هي دعوة إلى أحرار العالم وطلّاب الحرّية، لأن يكسروا القيد ويستفيدوا من تقنيات التواصل للتعلّم من تجاربِ الآخرين وخبراتهم، والتواصل مع الناجحين والتفاعل معهم، فنحن أحقّ بنصرةِ قضايانا، وحريٌ بنا أن نحارب الظلم الذي حلّ بنا وننتصر لكرامتنا، ونثورُ في وجهِ الطغاة المستبدّين أينما كانوا في العالم أجمع. 

Friday, March 29, 2024

طوفان الأقصى.. ارتقاء في الإنسانية

إقرأ المقالة في مدونات العربي الجديد 

 منذ بداية "طوفان الأقصى" ونحن نرى الكثير من ممارسات العدو وتصريحاته التي يُجرّد من خلالها ابن غزة من صفاته الإنسانية. ليس هذا بالسلوك الجديد ولا المُستغرب، بل هو انعكاس لرؤية بدأ التأطير لها منذ نكبة 1948، إلّا أنَّها تجلت في "طوفان الأقصى" ليصبح لدى العدو الذريعة لإبادة من هم ليسوا سوى "حيوانات بشريّة" كما صرح وزير الأمن الإسرائيلي يؤآف غالانت. تأتي هذه الألفاظ في زمنٍ كثرت فيه جمعيات حماية حقوق الحيوان التي تُرصد الميزانيات الضخمة لرعايتها؛ هذا الزمن الذي تتباهى فيه الأدبيات الغربية باستخدام اللغة "الشاملة" inclusive و"الصحيحة سياسيًّا" politically correct لتجنب الانحياز ضدّ فئةٍ ما أو إيذائها واستبعادها. 

لكنّ "طوفان الأقصى" جاء ليُزيح الستار عن ازدواجيّة المعايير العالمية، ويكشف قناع العدو الذي كان يُخبّئ وراءه همجيته وغيظه وفجوره، فانكشفت أكاذيبه كما لم تُكشف من قبل، واتضحت سَوءته لأحرار العالم على اختلاف ثقافاتهم وتنوّع انتماءاتهم ودياناتهم، ممن تربطهم، أو لا تربطهم، بغزة وفلسطين الأرض والدين والهوية. لكن هذا لم يكن ليقف رادعًا أمام عدوٍّ مغتاظٍ كاسر فقدَ سيطرته على ما يقول ويفعل على مرأى العالم أجمع، إلى الحد الذي دفع به لإعلانها صريحة أنّه يقاتل "حيوانات بشريّة"! لقد هجَّر العدو أهل غزة، ومنع عنهم مصادر الحياة، وأساء إليهم بأبشع الطرق، وابتكر أساليب قبيحة لاستباحة ممتلكاتهم وأجسادهم ومشاعرهم، بل إنسانيتهم.

حين يقوم طرف بتجريد الإنسانية عن شخص ما، هو يُجرّد بذلك الإنسانيّة عن ذاته بتصرّفه غير الإنساني

حين يقوم طرف بتجريد الإنسانية عن شخص ما، هو يُجرّد بذلك الإنسانيّة عن ذاته بتصرّفه غير الإنساني، فلا يستطيع أحدٌ، كائناً من كان، أن يُحافظ على صفاته الإنسانيّة في حين يسيء إلى إنسان آخر بوحشية، ولا يمكن أن نقتنع أنّ إنسانًا يطاوعه قلبه وعقله ليسرق كسرة الخبز من الأيادي الصغيرة المرتجفة، ويمنع قطرة الماء عن الحناجر الظمأى، ويحرم الرضيع من قليل الحليب الذي يُبقيه حيًّا، ويحرق سرير المستشفى تحت امرأة تضع حملها، ويقصف مركزاً بسيطاً بمن فيه من شباب متطوعين يقدمون ما أمكنهم من خدمات إسعافية لأبناء قريتهم النائية! لا يمكن أن نقتنع بأن من يقوم بهذا الإجرام إنسان مهما ساندت رؤيته جهاتٌ أو دعمت سلوكَه دول، لأن من يفعل كل ما بوسعه لإذلال إنسانٍ آخر لا يمكن أن يكون إنسانًا حقيقيًا. أضف إلى ذلك أنه يفعل ذلك بعلانيَةٍ وصراحةٍ دون أيّ تحفّظ، بل كثيرًا ما يتباهى بعض أفرداه بتلك الفعلة ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي وكأنها تحفة من روائعه الإجرامية. 

يضعنا هذا المشهد في صلب المعادلة التالية: هناك من يُجرًّد من إنسانيته بِفعل فاعلٍ، وهناك من يتصرف بلا إنسانية بكامل إرادة وعن سابق إصرار. وما رأيناه من الفلسطيني الذي أُجبر على المقاومة، من تعاطف مع الطرف الآخر وهو في حالة ضعفٍ، لهو قمةُ الإنسانية، مع أن هذا الطرف هو من سرق أرضه وقتل شعبه وشوّه حياته! وتجلّت إنسانيّة الفلسطيني في معاملته مع الأسرى، ولا سيما مع الفتيات والنساء والعجائز والمرضى. ففي قمة إساءة العدو الإسرائيلي للفلسطيني ووصمه إياه باللاإنسانية، وجدنا الأخير يتحلّى بتعاطف ونبل تجاه هذه الفئات الأكثر هشاشة من عدوه إلى درجة أننا نحن المشاهدين عن بُعد، وجدنا في هذا الإحسان مبالغة في بعض الأحيان. 

ما رأيناه ونراه في طوفان الأقصى هو، ببساطةٍ، ماردٌ جبارٌ يسرق إنسانية شعب أعزل، مستعينًا بقوته وقوة العالم أجمع، بينما ينتفض الشعب الأعزل من ضعف عَتاده وقلّة سلاحه مستعينًا بقوّة إنسانيته التي خرقت كل البروباغاندات لتلامس قلوب الملايين وعقولهم حول العالم، فتألموا لألمهم، وبكوا لمُصابهم، وفهموا حقيقة السردية الكاذبة التي بدأت ببدء الاحتلال. هذه هي الإنسانية التي لن تحرر الغَزِّيّ فحسب، بل ستكون النموذج الذي نأخذ جميعنا عنه الدروس والعبر، لنتحرر نحن أيضًا ونرتقي بإنسانيتنا. وأما العدو الظالم المتغطرس فأبجديات الإنسانية عنده مفقودة، ولذا طريقه طويل نحو الارتقاء إلى رُتبة إنسان.

Thursday, February 22, 2024

اللغة... ميدان حرب

إقرأ المقالة في مدونات العربي الجديد

 يصف ضيف أحد القنوات الإخبارية ما يحدث في غزة على أنه "تطهير عرقي"، فلا نعير بالًا لهذا التعبير لأننا اعتدنا سماعه، بل ربما استخدمناه نحن وكأنه التعبير المناسب لوصف حالات اعتداء قوة عسكريّة جبّارة على شعب أعزل ضعيف.

هذا واحدٌ من التعابير التي باتت تتكرّر على مسامعنا منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، نسمعه في نشرات الأخبار، ويتردد على ألسنة المحللين السياسيين وضيوف البرامج السياسية، ونقرؤه في الصحافة المكتوبة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. يعبّر هذا المصطلح الملطّف جدًا عن كمّ هائل من الممارساتٍ الفظيعة التي لا تخطر على بال بشر، وصياغته لم تأت عبثًا، إنما هي سلاحٌ من أسلحة الهجوم التي تستخدم في الحروب. أيّ إنّ المصطلح بذاته أداة حربٍ في زمن تعددت فيه ميادين الحروب. فلم تعد تقتصر على الميدان العسكري للقوة والسلاح فحسب، بل تجاوزته لتشمل الميادين الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والتربوية، واللغوية.

إنّ استخدام اللغة الملطفة للتعبير عن السلوكيات الإجرامية ما هي الا أسلوبٌ خبيثٌ لتغليف الحقيقة، ووسيلةٌ ماكرةٌ توحي بأن الواقع أقلّ فظاعةً مما هو عليه بالفعل. ففي كثيرٍ من الأحيان، تُصاغ التعابير بمسحةٍ تميل إلى الإيجابية، فيتحول من خلالها الهجوم الهمجي الشرس إلى "تطهيرٍ للعرق"، مصطلحٌ يفترض أن يشير إلى قتل الأبرياء العزل، وسفك دماء المدنيين، وتشويه حياة من بقى منهم عبر تجويعهم وقتل عائلاتهم وتدمير مأواهم وبتر أطرافهم ثم منعهم عن العلاج بتدمير مستشفياتهم واستهداف أطبائهم، ثمّ إهانتهم وإزالة صفات الإنسانية في الحديث عنهم.

باستخدام أساليب بسيطة، تستبدل الصورة الذهنية الحقيقية بصورة أكثر إيجابية وإنسانية. فعندما يعتاد المشاهد سماع مصطلح "التطهير العرقي" في المقابلات التلفزيونية والإذاعية وفي التحاليل السياسية المسموعة والمقروءة، تتكون لديه صورةٌ للمكان المراد تطهيره على أنه أرضٌ مدنّسةٌ بسبب عرق ما، ويتحول المعتدي إلى بطلٍ لا يملك إلا أن يشنّ حربًا لتطهره من دنس هذا العرق. وبذلك إيحاءٌ بأن المعتدي شريفٌ يقوم بعملٍ نبيلٍ يدافع به عن نفسه وأرضه، بل وقد يتمادى في نفاقه ليخبرنا أنه في حربه يجاهد ليعلي كلمة الحق، وهل هناك من هو بحاجة للتطهير أكثر ممن تملّكه الحقد فشرع في إبادة كل أشكال الحياة والعمران وقتل شعب بأكمله؟

إن الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع

وللتخفيف من الصورة الحقيقية لما يخلفه المعتدي الظالم من سحق للبنى التحتية والمعالم العمرانية والمؤسسات والبساتين والأشجار المعمّرة وجميع مصادر رزق الناس وتلويث مياههم وقتل الغفير منهم، يستخدم مؤيدو الغاصب عبارة "آثار جانبية"، وكأن كل هذا الدمار والخراب جاء عن طريق الخطأ ودون أي تعمد، بل هو ضريبةٌ صغيرةٌ يتكبدها "المُطهّر العرقيّ" جزاءً له على عمله التطهيريّ النبيل؛ وهذه هي الصورة المراد ترسيخها في ذهن المستمع والقارئ. يحجب هذا الاستخدام المعنى الصحيح للعمل الشنيع الذي قام به المعتدي، فيلطف حدّة الآثار المأساوية التي لحقت بالمواطنين وممتلكاتهم وأساسيات حياتهم، ويعمل على تقزيم المعاناة والعذاب الذي سببه لهم  الاعتداء المسلح غير الإنساني.

وأما وصف العلاقة بين طرفين متخاصمين على أنها "صراع" دائرٌ بينهما، ففي ذلك إيحاءٌ بعدم تجانس الطرفين بسبب اختلاف أفكارهم، أو أهدافهم، أو اهتماماتهم. وفي حالات "الصراع" هذه، هناك قابلية للتدخل والإصلاح وبناء السلام بين المتصارعين، بينما الواقع هو أن المحتل، المعتدي، الغاصب، صاحب السلاح المدعوم من أقوى قوى العالم، قد سرق أرض شعب فحرق زيتونها واستباح بساتينها وفجّر بيوتها ودمر مؤسساتها، وسجن من سجن وقتل من قتل وبتر من أطرافهم ما استطاع وحرم من بقي حيًّا من أولادهم و آبائهم وأقرانهم، وانهال عليهم بالصدمة النفسية تلو الصدمة النفسية، فطبع في أذهانهم مشاهد وحشيّةً لن يشفوا منها ما داموا على قيد الحياة.. بالأحرى، فقد حاول منع بوارق الأمل كلها عنهم.

لا نستغرب هذه اللغة المليئة بالكذب والإيحاءات الصادرة عن غاصبٍ أو داعم له، فمن خان الحق والإنسانية والقيم، لن يرف له جفن إذا كذب، بل من المتوقع منه لا أن يكذب عندما يتحدث فحسب، بل أن يفجُر عند المخاصمة. وعليه، فإنّ الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع، وأن لا يشرعوا في تكرار ما يقدمه الآخرون من مصطلحات وتعابير دون فحصها والتأكد من دقتها  لتعكس الحقيقة والواقع، وعلى الجمهور المتلقي أن لا يقبل إلا أن يقدم له ما هو صادق خال من الكذب والخداع.  

Wednesday, February 14, 2024

تعزيز النزاهة الأكاديمية في المؤسسات التربوية

 تأليف: سهام العموش و آمال فرحات

نشر في:  28 كانون الثاني 2024 في موقع مبادرة الشرق الأوسط/جامعة هارفرد

ترجمة: وفاء السكران

مراجعة لارا الخطيب

النزاهة الأكاديمية: المعنى والتعريف

تعرّف منظمة المقاييس والجودة للتعليم الثالثي الاسترالية (TEQSA) النزاهة الأكاديمية ب” ضرورة عمل المعلمين، والطلاب، والباحثين، وجميع أعضاء المجتمع الأكاديمي بما يتفق مع الأمانة، والثقة، والعدالة، والاحترام، وتحمل المسؤولية“. وبالرغم من ذلك، فإن النزاهة  ليست حصرا على المجتمعات الأكاديمية؛ الجميع ملزم، في مرحلة ما أوأخرى من حياتهم، باتخاذ خيارات أدبية أو أخلاقية نبيلة. وقد يسبب هذا الالتزام ضغط على الفرد، حيث أن الاختيارات الأدبية والاخلاقية قد لا تكون مفيدة على الدوام وقد تتعارض مع الأهداف الشخصية.

قيم النزاهة الأكاديمية

تتضمن النزاهة الأكاديمية مجموعة من المبادئ والقيم التي تتطلب منا التصرف بحس المسؤولية، والعدالة، والأمانة، والاحترام (TEQSA 2021). وهذا يعني أن تنهج حياتنا المهنية نهج الأخلاق، ويكون لدينا الشجاعة الكافية لاتخاذ الخيارات الصحيحة، والتصرف بشكل مشرف كعضو في مجتمع. وتدور النزاهة الأكاديمية حول شخصياتنا وكيف نتصرف في المواقف الحاسمة بالرغم من الضغوطات الممارسة علينا.

لماذا النزاهة الأدبية مهمة؟

يعدّ الالتزام بالنزاهة الأدبية في المؤسسات أمرا حيويا حيث أنه يؤكد على العمل المستند إلى الأمانة، والثقة، والاحترام ويضمنه. كما وتعتبر النزاهة الأكاديمية عنصرا حيويا في سلسلة الإمدادات للواجب الأخلاقي في مؤسسات التعليم العالي. ويبني الالتزام بمعايير اخلاقية عالية الثقة بين الأطراف المعنية المختلفة في المؤسسة التي تضمن مصداقية الدرجات والمخرجات الأكاديمية الأخرى للمؤسسة. وكذلك، يعزز بيئة يركز فيها الطلاب، والباحثون، وكافة الأكاديميين على التعلم الحقيقي الذي يعدّ ضروريا للمؤسسة كي تنجح و تكتسب السمعة الطيبة والثقة. ولا ننسى أنه عندما تكون قيم النزاهة الأدبية ذات أولوية، يصبح من المرجح أن يكتسب الطلاب والأكاديميين القيم التي تحفز سلوكياتهم ليس فقط داخل المؤسسة لكن في الأدوار المختلفة التي يؤدونها في حياتهم، والذي بدوره يساعد في ارتقاء مواطنين ذوي أخلاق في الأمة بوجه عام. ومن المرجح أن ترتبط العدالة والمساواة بثقافة المؤسسة. وهذا يضمن أن يحصل الجميع على فرص متساوية و يعاملوا بعدالة.

إنشاء بيئة للنزاهة الأكاديمية

يجب أن يكون المعلمون استباقيي الفعل وليس ذوي ردة فعل في هذا النطاق. ومن الممكن رؤية ذلك في خلق الفرص للنقاش وحل المشكلات قبل ظهور المشكلات والتحديات، وفي إتاحة الوقت لإيجاد خيار مناسب للرد. التالي بعض الممارسات التي قد تدعم تعليم النزاهة الأكاديمية للطلاب وتطبيقها:

  • ابدأ بتعريف المبادئ الأساسية الستة للطلاب حول الأمانة، والاحترام، وتحمل المسؤولية، والعدالة، والجدارة بالثقة، والشجاعة- أو ما يسمى بالقيم العالمية.
  • بالتعاون مع الطلاب والمتبقي من الطاقم التدريسي، عرّف السلوكيات التي تتفق مع القيم المحددة. إحدى الطرق للقيام بذلك كتابة القيم على الجهة اليسرى من ورقة كبيرة الحجم. أضف عمودين، أحدهما للطلاب والآخر للطاقم التدريسي، حيث يحددون السلوكيات المطلوبة، في العمود المخصص لهم، للالتزام بكل قيمة. ويجب على المشاركين مناقشة أهمية تعريف القيم والسلوكيات وكيف يؤثر هذا على عملهم وعلاقاتهم. 
  • أنشئ قواعد سلوك اجتماعية للسلوكيات المرجوة. ويعمل هذا كإطار عمل فعّال للتربويين والطلاب على حد سواء. أولا، يتيح للمعلمين فرصة تحديد وجهات النظر المشتركة للتوقعات الرئيسية و يشجع على السلوك الأخلاقي عندما يتشارك جميع الأفراد فهم ضمني لما هو صواب. بالإضافة إلى ذلك، سيدرك الطلاب أن خرق هذه القيم غير مقبول حتى بين الأقران.
  • ابدأ نقاش غير تزامني عن بعد واتبعه بمناقشة صفية. وقد تشجع رسالة تذكيرية جيدة التوقيت ممارسات الطلاب وتحفزها في كل مهمة أكاديمية، سواء كان ورقة بحث أو نشاط تقييمي. وبالإضافة لذلك، قد يكون من المفيد للطلاب تأمل هذه القيم بعد إنهاء مهامهم لمناقشة ازدياد فهمهم الضمني للقيم في ممارساتهم وازدياد تطبيقها، وبالتركيز على كيفية تغيرهم، و ما هي المعوقات التي واجهوها، وما هي المخاوف التي لديهم. وبالنتيجة، يستطيع الطلاب اقتراح تعديلات على الممارسات وبذلك يتجهون للقيم بشكل أفضل. قد يكون هذا ذو فائدة كبيرة نحو اتفاق جماعي. 
  • يعدّ الإبقاء على ممارسة هذه القيم للمعلمين أمرا ضروريا، ذلك يجب أن يمثل التربويون نموذجا للسلوكيات المأمولة من الطلاب. يضع هذا معايير للطلاب و يمنحهم  فرصة لرؤية السلوك المطلوب.

خلاصة القول فإن المعلمون مسؤولون عن خلق ثقافة للنزاهة الأكاديمية التي تسهل تعلم الطلاب و تضمن أن الدرجات التي يحصلون عليها تعكس مستواهم الحقيقي وأن الشهادات هي انعكاس معرفتهم وقدراتهم.

تعزيز النزاهة الأكاديمية في عصر الذكاء الاصطناعي (AI) 

مع التطور الهائل في أدوات الذكاء الاصطناعي و سهولة استخدام الطلاب لها لتكوين الواجب المدرسي، أصبح من الضروري خلق ثقافة النزاهة بين الطلاب ومساعدتهم على المشاركة في ممارسات تنطلق من القيم العالمية المحددة مسبقا. يحتاج التربويون مناقشة الطلاب حول نقاط التقاطع بين النزاهة الأكاديمية وفائدة أدوات الذكاء الاصطناعي، وما السياسة التي من الواجب الالتزام بها عند القيام بكل وظيفة مدرسية أو مهمة أكاديمية. و كممارسة فضلى، يجب أن يبدأ المعلمون المنهاج وشرح لطلابهم الى أي درجة يسمح لهم استخدام الذكاء الاصطناعي، و كيفية ربط استخدامه بالنزاهة. ويجب إعادة النظر في  هذه السياسة و مناقشتها قبل كل مهمة مدرسية.

لتحديد إذا كان باستطاعة الطلاب استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي للقيام بمهمة مدرسية، فيجب أن يربط المعلمون معايير المهمة المدرسية بأهداف التعلم و توضيح ما يمكن أن ينتجه الطلاب باستخدام الذكاء الاصطناعي. ويجب شرح معايير التقويم والأخذ بعين الاعتبار استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. وقد يطلب من الطلاب تأمل عملية القيام بالمهمة الدراسية كخطوة إضافية. يمكن أن يساعد تطبيق تأمل العملية كممارسة الطلاب على التفكير الناقد حول أعمالهم الخاصة بهم و الدور الذي لعبه الذكاء الاصطناعي أثناء العملية.

بالإضافة الى وضع سياسة و توقعات متعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي بوضوح كبير، فإنه من الضروري أن يحدّث المعلمون منهجيات التدريس لديهم وأن يبتكروا مهام مدرسية تعزز تجربة تربوية هادفة للطلاب وذلك لأنهم لا يمكنهم الاعتماد بشكل كلي على الذكاء الاصطناعي. التالي بعض التوصيات المفيدة في هذا الصدد:

  • تطبيق التعلم المبني على المشاريع ليمارس الطلاب مهارات التفكير العليا.
  • تضمين تأمل الطلاب للنتاجات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي.
  • دمج عنصر التأمل الذاتي في تقويم الطلاب.

وأخيراً، من الضروري تقييم الطلاب بناءا على العملية وليس فقط المنتج. سوف يعزز هذا نقاش الطلاب حول تطورهم أثناء عملية الكتابة.

مصادر

https://www.teqsa.gov.au/students/understanding-academic-integrity/what-academic-integrity

https://www.monash.edu/student-academic-success/maintain-academic-integrity/what-is-academic-integrity-and-why-is-it-important#tabs__2816746-03