Friday, October 4, 2024

ماذا يعني أن تكون لبنانياً؟

تقرأون المقال في مدونات العربي الجديد 


أتابع وعائلتي رحلة ابنتنا إلى تركيا لتلتحق بجامعتها بعد إجازة أمضتها في لبنان، ولكنّ الرحلة كانت مختلفةً هذه المرة. أجبرت الحرب الشرسة ابنتي على السفر باكرًا قبل انتهاء إجازتها، لتغادر لبنان برًّا عبر سوريا، فالأردن، ومن هناك جوًّا إلى تركيا، في رحلةٍ مرهقةٍ وخطّ سيرٍ طويلٍ عسير؛ رحلةٌ تخللتها ساعاتٌ وساعاتٌ من الانتظار عند كل نقطةٍ حدودية. وبينما أنا في خضم قلقي خلال رحلة ابنتي، أحمل الهاتف لعلّ رسالةً تصلني فتطمئنني على اجتيازها الحواجز إلى برّ الأمان، اقتربت مني أصغر بناتي التي التحقت بالجامعة مطلع هذا العام لتقول إنها تخشى أن لا تكون قويةً مثل إخوتها لأنها تعيش في مدينةٍ آمنة، تأخذها أمها كلّ صباحٍ إلى صفوفها ثمّ تعيدها إلى المنزل آخر النهار. هي التي عاينت منذ صغرها المعاناة التي مرّ بها كلٌّ من إخوتها الذين سبقوها خلال دراستهم بسبب التوترات المتعددة التي مرّ بها بلدنا، لتصبح رحلة الطالب إلى جامعته أشبه بتوغلٍ غامضٍ وسط الأدغال: لا يعرف من أين تعترضه المصاعب ومتى تحيط به المخاطر.

استعرضت في ذهني شريط المخاوف التي مررت بها منذ صغري. ذهبت بي ذاكرتي إلى الثمانينيات، حين كنا نختبئ جماعيًا، أنا وعائلتي الممتدة وأناس حارتنا، في بيت جدّي، ذلك الحصن المتين ذو الحجارة الكبيرة، حتى جاءنا خبر وصول جنود الاحتلال إلى بلدتنا. وبحشرية طفلةٍ صغيرة، تجاوزتُ مخاوفي وخرجت إلى باحة بيت جدي، فرأيت مراكب كبيرةً غريبة، دباباتٌ في أعالي تلال البلدة تتجه نحو حيّنا، وعليها مخلوقاتٌ غريبةٌ تلبس قبعات خضراء تشبه البطيخ على رؤوسها. ومع اقتراب المراكب الكبيرة تعتليها المخلوقات الغريبة، تبين لي أنّهم بشر! لهم رؤؤس عاديّةٌ مثل رؤوس البشر، ووجوهٌ وأيدٍ وأرجلٌ، لأتيقن أنهم ليسوا مخلوقاتٍ فضائيةً ترتدي قبعاتٍ من قشر البطيخ كما رأيتهم مسبقًا.

وبعد لحظة الإدراك تلك، صرت أرى عدوّنا البشري يمارس سلوكياتٍ غير بشرية. حاصر الجنود بيوتنا وقيّدوا حركتنا ومنعونا عن مدارسنا، اقتحموا بيوتنا بهمجيّةٍ باحثين عن أيّ دليلٍ ليستخدموه ضدّ شبابنا، ثمّ اقتادوا الشباب إلى ساحة البلدة ليستجوبوهم عما لم يفعلوه ويمارسوا نرجسيتهم عليهم.

حاصر الجنود بيوتنا وقيّدوا حركتنا ومنعونا من مدارسنا، اقتحموا بيوتنا بهمجيّةٍ باحثين عن أيّ دليلٍ ليستخدموه ضدّ شبابنا

ثم مرّت السنون الطوال، وفرحنا بخروج العدوّ من منطقتنا، ورحنا نحتفل على الطرقات التي حُرمنا من السير عليها لسنوات. ولكن سرعان ما امتزجت تلك الفرحة باللوعة مما رأيناه من دمارٍ، وما سمعناه عن الألغام التي ظلّت مزروعةً في حقولنا  تقتل الأبرياء، وكأن العدو أراد أن يستمرّ في خطف أكبر قدر من الأرواح  حتى بعد رحيله ليوجع من بقوا على قيد الحياة.

وبالفعل، وحتى يومنا هذا، ما زالت أيادي ذلك العدو تعبث بحياة اللبناني ومشاعره وأمنه بافتعال خلطاتٍ عجيبة من الحروب الحامية والباردة، الناعمة الخفية والقاسية المحسوسة، فقد عانى اللبناني لعقودٍ من آثار الاغتيالات والحروب والمشكلات الداخلية والاقتصادية والتفجيرات والفراغ السياسي والثورات والتفرقة، إلى أن وصلنا إلى ما عليه الآن: قتلٌ وذعرٌ ونزوحٌ وتهجيرٌ... وتشويهٌ للحياة. وها هو التاريخ اليوم يعيد ذكريات الأمس، فلا يتسنى لنا أن نلتقط أنفاسنا بعد كلّ محنةٍ، حتى نجد البلاد والعباد وقد قذفوا في محنةٍ جديد، وكل مأزقٍ يتجاوز بحدته وأذاه المآزق التي سبقته، إلى أن أصبحت المآزق تُدار عن بعد بالذكاءات الاصطناعية لتضاعف من خطورتها وأذاها. 

مع أني أسكن الآن في بلدٍ آمن، إلا أن شبح الخوف يلاحقني في كل لحظة. أخاف على أحبائي وأصدقائي وعائلتي الذين يعيشون داخل غلافٍ من المجازر المتلاحقة، يتلمسون حياتهم بين الخراب والدمار، ينامون على أصوات الغارات ويتابعون أيّامهم على طنين طائرات الاستطلاع، لا يعرف الواحد منهم مصيره في اللحظة القادمة. وأنا هنا في أماني، يهبط قلبي كلما سمعت صوت طائرةٍ مدنية في سماء المدينة، أو جلبة آليات إصلاح الطرق وبناء البيوت، فأخجل من نفسي عندما أستذكر أن هذه الأصوات هي أضعاف مضاعفة على شعب بلدي بأكمله، ولكنها عندهم أصوات طائراتٍ وقذائف ومسيّراتٍ أعدت للدمار والقضاء على الحياة. وفي الوقت الذي لا أستطيع فيه النوم بسبب الأخبار التي لا أنقطع عن متابعتها، أعرف أن بلدي وأهله هم الخبر بذاته.

كل هذا يجعلني أتساءل: هل بالفعل يجب أن تقترن حياة اللبناني بالخوف والمشقة؟ هل تنتقص لبنانيته إذا عاش في أمن وأمان؟ وهل الدروس الحياتيّة لطالبة جامعية تظلّ ناقصةً إذا لم تكن مشبعةً بالمخاطر؟

أعود لصغيرتي: لا يا عزيزتي، لست بحاجةٍ لأن تعيشي الخوف حتى تصبحي قويّة، بل لا يستحق أيٌّ منا أن يعيش الذعر والحرمان، ولا يستحق أولادنا أن يعيشوا ما عشناه نحن سابقًا. الله كرّمنا، والحياة الحرة الكريمة الآمنة هي ما نستحقه، والهلاك، الهلاك لكل من يحاول أن ينتزع تلك الكرامة منا.

Wednesday, May 8, 2024

انتفاضةُ الجامعات... الأسباب والدوافع

تقرأون المقالة في مدونات العربي الجديد 

فاجأنا طلابُ الجامعات الأميركية بتحرّكهم الداعم لغزّة، الرافض للمجازر بحقّها، والمُطالب بوقفِ دعمِ هذه الجامعات للمؤسّسات الإسرائيلية أو التعاون معها، بل يدعو الطلاب إلى تكوين شراكاتٍ مع الجامعات الفلسطينية، وتعزيز التواصل، وتنسيق العلاقات مع طلّابها. 

نعجب لهذه التحرّكات في الجامعات الأميركية، ويزداد عجبُنا حين نراها في الجامعات النخبوية ومعاقل التميّز و"البريستيج"، أي أنّ طلابها يتمتّعون بعيشٍ رغيد، ولا تربطهم أيّة اهتمامات بشعبٍ أعزل يُعاني كلّ أشكالِ عذاباتِ الحياة. وهذا ما يثير تساؤلاتنا حول دوافع هؤلاء الطلاب في مناصرةِ أهدافٍ إنسانيةٍ لا تقع ضمن مصالحهم، بل تتعارض ومصالح آبائهم ومؤسّساتهم والطبقة السياسية التي ينتمون إليها. أضف إلى ذلك، أنّه لا رابط ثقافياً، ولا دينياً أو جغرافياً، مع الفلسطيني الذي يهتفون من أجل تحرّره ورفع الظلم عنه، وإعادة تموضعه على خريطة العالم بعدما تناسته أكثر الشعوب التصاقاً به. 

قد نفهم ما يحصل في هذه الجامعات إذا عُدنا لنظرية "إعادة الإنتاج الاجتماعي" لبيير بورديو الذي يرى أنّ النظام التعليمي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظام الاجتماعي، فالنظام التعليمي يعيدُ إنتاجَ طلّابه ليعودوا إلى الطبقاتِ الاجتماعية التي أتوا منها. هذا يعني أنّ المدرسة تُربّي أبناء الطبقات المسحوقة ليعودوا ويتموضعوا داخل طبقاتهم الاجتماعية، كما أنّها تربّي أبناء الطبقات البرجوازية ليعودوا ويتموضعوا فيها. ولمعرفة كيف يحصل ذلك، علينا أن نفهم دورة التعليم في هذه المؤسّسات، وكيف يتمّ بناء المعرفة وتشكيل الوعي، وذلك ما يمكن أن نرصده في ما يلي:

- إنّ تلك الجامعات المرموقة غير مُتاحة في معظمِ الأحيان لمن هم خارج نطاق الامتياز والثروة، وغالباً ما يكون طلّابها من أبناء المجموعات المهيمنة التي ورثت امتيازاتها عبر الأجيال. وبما أنّهم أفراد نخبويّون، فهم يتمتّعون بالمعرفةِ والمهاراتِ والتصرّفاتِ التي تمنحهم مزايا اجتماعية، وهم الذين درسوا في مؤسّساتٍ تستهدفُ تعزيز تفكيرهم النقدي، من خلال العديد من الأنشطة اللامنهجية التي تتضمّنها مناهج هذه المؤسّسات، فضلاً عمّا تُتيحه لهم من شبكاتٍ اجتماعيةٍ تُساهم في تعميقِ فهمهم لعالمهم وديناميكيته ومكانتهم فيه. 

النظام التعليمي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنظامِ الاجتماعي، فالنظام التعليمي يعيدُ إنتاجَ طلّابِه ليعودوا إلى الطبقات الاجتماعية التي أتوا منها

- ويتمتع هؤلاء الطلبة بالتعلّم ضمن مناهج تعليمية مخصّصة لذوي الامتيازات، وهي مناهج تعمل على غرس قيمٍ مجتمعية وعاداتٍ ذهنية تركز على التفكير النقدي والإبداعي والريادي، وهذه كلّها ضرورية للتعامل مع أنظمة السلطة والامتيازات، وتأهيل الطلاب لمواقعهم المنتظرة بعد تخرّجهم من جامعاتهم، تلك المواقع التي رُسِمتْ لهم، فهم يرثونها عن آبائهم، وغالباً ما يكون لهم فيها أدوارٌ تسمح لهم بالتأثير على المستوى الكلّي للأنظمة والسياسات والتلاعب بها. بتعبيرٍ آخر، هم مشاريع القادة وصنّاع القرار والسياسات في المؤسسات، سواء أكانت هذه المؤسسات اجتماعية، أم سياسية، أم أكاديمية، أم عسكرية. 

- هذا النظام التعليمي الذي يتمتّع به طلّاب الجامعات المرموقة يشجّعهم على مُساءلةِ السلطات، وتحدّي النماذج الجاهزة في المؤسّسات، ويدفعهم إلى عدم قبول الأمور كما تُقدّم إليهم. في المقابل، هناك طلّاب الطبقة العاملة الذين لا يتمتّعون برأسمالٍ ثقافي يبنون عليه تجاربهم العلمية، وكثيراً ما نراهم يخضعون لتجارب تعليميةٍ تُنمّي فيهم الطاعة والقبول، أكثر مما تصنع فيهم النقد أو الاعتراض! ويعود ذلك، بشكلٍ كبير، إلى المؤسّسات التعليمية التي يتلقون فيها علومهم، وهي مؤسّسات لا تتوفّر فيها الموارد، ولا تفتح لهم من خلالها أبواب الفرص، حيث تطغى على طرق التدريس أساليب الحفظِ والتكرار، مع فرصٍ قليلة للإبداع والتحليل والنقد وحلّ المشكلات، والتي، إنْ وُجِدتْ، تكون محصورةً في نشاطاتٍ محدودةٍ غير متجسّدةٍ في النظامِ التعليمي بشكلٍ عميقٍ ومتكامل.

هل من المقبول في عصر الاتصالات وثورات الانفتاح أن يبقى طلّاب جامعاتنا أسرى عمليةِ إعادةِ إنتاجٍ اجتماعي لا إرادي؟ 

ونعود لما يحصل في باحات الجامعات الأميركية لنرى أنّه نتاج أنظمةٍ تعليميةٍ هيّأت طلابها ليفكروا ويتفكّروا بما يحصل في العالم، وليتساءلوا عن مشروعيته ويقيّموه وينتقدوه. لذلك أخذوا على عاتقهم نصرة الفلسطيني المهمّش الذي لا تربطهم به أيّة روابط، والذي اتخذته سلطاتهم ومؤسّساتهم عدوّاً لها. إلا أنّ هؤلاء الطلاب يشتركون مع الشعب الفلسطيني في أنّهم قرّروا تبني مبادئ الحرية والمساواة والإصرار، فتشابهت أهدافهم وإن اختلفتْ منطلقاتهم.

بدأت المظاهرات المندّدة بالجرائم الإسرائيلية، المنادية بالحرّية للشعب الفلسطيني، في الجامعاتِ الأميركية حصراً، لتصل أصداؤها إلى جامعاتٍ شبيهةٍ حول العالم. لكن، هل من المقبول ألّا نرى لها مثيلاً في جامعاتنا العربية؟ هل يجوز أن يبقى طلّاب الجامعات التي لا تتمتّع بالامتياز راضخين لحتمية أنّهم لم يتلقوا تعليماً يُنمّي فيهم مهارات التفكير العليا والقيم الحياتية الكبرى؟ وهل من المقبول في عصرِ الاتصالات وثورات الانفتاح أن يبقى طلّاب جامعاتنا أسرى عمليةِ إعادةِ إنتاجٍ اجتماعي لا إرادي؟ 

هي دعوة إلى أحرار العالم وطلّاب الحرّية، لأن يكسروا القيد ويستفيدوا من تقنيات التواصل للتعلّم من تجاربِ الآخرين وخبراتهم، والتواصل مع الناجحين والتفاعل معهم، فنحن أحقّ بنصرةِ قضايانا، وحريٌ بنا أن نحارب الظلم الذي حلّ بنا وننتصر لكرامتنا، ونثورُ في وجهِ الطغاة المستبدّين أينما كانوا في العالم أجمع. 

Friday, March 29, 2024

طوفان الأقصى.. ارتقاء في الإنسانية

إقرأ المقالة في مدونات العربي الجديد 

 منذ بداية "طوفان الأقصى" ونحن نرى الكثير من ممارسات العدو وتصريحاته التي يُجرّد من خلالها ابن غزة من صفاته الإنسانية. ليس هذا بالسلوك الجديد ولا المُستغرب، بل هو انعكاس لرؤية بدأ التأطير لها منذ نكبة 1948، إلّا أنَّها تجلت في "طوفان الأقصى" ليصبح لدى العدو الذريعة لإبادة من هم ليسوا سوى "حيوانات بشريّة" كما صرح وزير الأمن الإسرائيلي يؤآف غالانت. تأتي هذه الألفاظ في زمنٍ كثرت فيه جمعيات حماية حقوق الحيوان التي تُرصد الميزانيات الضخمة لرعايتها؛ هذا الزمن الذي تتباهى فيه الأدبيات الغربية باستخدام اللغة "الشاملة" inclusive و"الصحيحة سياسيًّا" politically correct لتجنب الانحياز ضدّ فئةٍ ما أو إيذائها واستبعادها. 

لكنّ "طوفان الأقصى" جاء ليُزيح الستار عن ازدواجيّة المعايير العالمية، ويكشف قناع العدو الذي كان يُخبّئ وراءه همجيته وغيظه وفجوره، فانكشفت أكاذيبه كما لم تُكشف من قبل، واتضحت سَوءته لأحرار العالم على اختلاف ثقافاتهم وتنوّع انتماءاتهم ودياناتهم، ممن تربطهم، أو لا تربطهم، بغزة وفلسطين الأرض والدين والهوية. لكن هذا لم يكن ليقف رادعًا أمام عدوٍّ مغتاظٍ كاسر فقدَ سيطرته على ما يقول ويفعل على مرأى العالم أجمع، إلى الحد الذي دفع به لإعلانها صريحة أنّه يقاتل "حيوانات بشريّة"! لقد هجَّر العدو أهل غزة، ومنع عنهم مصادر الحياة، وأساء إليهم بأبشع الطرق، وابتكر أساليب قبيحة لاستباحة ممتلكاتهم وأجسادهم ومشاعرهم، بل إنسانيتهم.

حين يقوم طرف بتجريد الإنسانية عن شخص ما، هو يُجرّد بذلك الإنسانيّة عن ذاته بتصرّفه غير الإنساني

حين يقوم طرف بتجريد الإنسانية عن شخص ما، هو يُجرّد بذلك الإنسانيّة عن ذاته بتصرّفه غير الإنساني، فلا يستطيع أحدٌ، كائناً من كان، أن يُحافظ على صفاته الإنسانيّة في حين يسيء إلى إنسان آخر بوحشية، ولا يمكن أن نقتنع أنّ إنسانًا يطاوعه قلبه وعقله ليسرق كسرة الخبز من الأيادي الصغيرة المرتجفة، ويمنع قطرة الماء عن الحناجر الظمأى، ويحرم الرضيع من قليل الحليب الذي يُبقيه حيًّا، ويحرق سرير المستشفى تحت امرأة تضع حملها، ويقصف مركزاً بسيطاً بمن فيه من شباب متطوعين يقدمون ما أمكنهم من خدمات إسعافية لأبناء قريتهم النائية! لا يمكن أن نقتنع بأن من يقوم بهذا الإجرام إنسان مهما ساندت رؤيته جهاتٌ أو دعمت سلوكَه دول، لأن من يفعل كل ما بوسعه لإذلال إنسانٍ آخر لا يمكن أن يكون إنسانًا حقيقيًا. أضف إلى ذلك أنه يفعل ذلك بعلانيَةٍ وصراحةٍ دون أيّ تحفّظ، بل كثيرًا ما يتباهى بعض أفرداه بتلك الفعلة ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي وكأنها تحفة من روائعه الإجرامية. 

يضعنا هذا المشهد في صلب المعادلة التالية: هناك من يُجرًّد من إنسانيته بِفعل فاعلٍ، وهناك من يتصرف بلا إنسانية بكامل إرادة وعن سابق إصرار. وما رأيناه من الفلسطيني الذي أُجبر على المقاومة، من تعاطف مع الطرف الآخر وهو في حالة ضعفٍ، لهو قمةُ الإنسانية، مع أن هذا الطرف هو من سرق أرضه وقتل شعبه وشوّه حياته! وتجلّت إنسانيّة الفلسطيني في معاملته مع الأسرى، ولا سيما مع الفتيات والنساء والعجائز والمرضى. ففي قمة إساءة العدو الإسرائيلي للفلسطيني ووصمه إياه باللاإنسانية، وجدنا الأخير يتحلّى بتعاطف ونبل تجاه هذه الفئات الأكثر هشاشة من عدوه إلى درجة أننا نحن المشاهدين عن بُعد، وجدنا في هذا الإحسان مبالغة في بعض الأحيان. 

ما رأيناه ونراه في طوفان الأقصى هو، ببساطةٍ، ماردٌ جبارٌ يسرق إنسانية شعب أعزل، مستعينًا بقوته وقوة العالم أجمع، بينما ينتفض الشعب الأعزل من ضعف عَتاده وقلّة سلاحه مستعينًا بقوّة إنسانيته التي خرقت كل البروباغاندات لتلامس قلوب الملايين وعقولهم حول العالم، فتألموا لألمهم، وبكوا لمُصابهم، وفهموا حقيقة السردية الكاذبة التي بدأت ببدء الاحتلال. هذه هي الإنسانية التي لن تحرر الغَزِّيّ فحسب، بل ستكون النموذج الذي نأخذ جميعنا عنه الدروس والعبر، لنتحرر نحن أيضًا ونرتقي بإنسانيتنا. وأما العدو الظالم المتغطرس فأبجديات الإنسانية عنده مفقودة، ولذا طريقه طويل نحو الارتقاء إلى رُتبة إنسان.

Thursday, February 22, 2024

اللغة... ميدان حرب

إقرأ المقالة في مدونات العربي الجديد

 يصف ضيف أحد القنوات الإخبارية ما يحدث في غزة على أنه "تطهير عرقي"، فلا نعير بالًا لهذا التعبير لأننا اعتدنا سماعه، بل ربما استخدمناه نحن وكأنه التعبير المناسب لوصف حالات اعتداء قوة عسكريّة جبّارة على شعب أعزل ضعيف.

هذا واحدٌ من التعابير التي باتت تتكرّر على مسامعنا منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، نسمعه في نشرات الأخبار، ويتردد على ألسنة المحللين السياسيين وضيوف البرامج السياسية، ونقرؤه في الصحافة المكتوبة ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. يعبّر هذا المصطلح الملطّف جدًا عن كمّ هائل من الممارساتٍ الفظيعة التي لا تخطر على بال بشر، وصياغته لم تأت عبثًا، إنما هي سلاحٌ من أسلحة الهجوم التي تستخدم في الحروب. أيّ إنّ المصطلح بذاته أداة حربٍ في زمن تعددت فيه ميادين الحروب. فلم تعد تقتصر على الميدان العسكري للقوة والسلاح فحسب، بل تجاوزته لتشمل الميادين الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والتربوية، واللغوية.

إنّ استخدام اللغة الملطفة للتعبير عن السلوكيات الإجرامية ما هي الا أسلوبٌ خبيثٌ لتغليف الحقيقة، ووسيلةٌ ماكرةٌ توحي بأن الواقع أقلّ فظاعةً مما هو عليه بالفعل. ففي كثيرٍ من الأحيان، تُصاغ التعابير بمسحةٍ تميل إلى الإيجابية، فيتحول من خلالها الهجوم الهمجي الشرس إلى "تطهيرٍ للعرق"، مصطلحٌ يفترض أن يشير إلى قتل الأبرياء العزل، وسفك دماء المدنيين، وتشويه حياة من بقى منهم عبر تجويعهم وقتل عائلاتهم وتدمير مأواهم وبتر أطرافهم ثم منعهم عن العلاج بتدمير مستشفياتهم واستهداف أطبائهم، ثمّ إهانتهم وإزالة صفات الإنسانية في الحديث عنهم.

باستخدام أساليب بسيطة، تستبدل الصورة الذهنية الحقيقية بصورة أكثر إيجابية وإنسانية. فعندما يعتاد المشاهد سماع مصطلح "التطهير العرقي" في المقابلات التلفزيونية والإذاعية وفي التحاليل السياسية المسموعة والمقروءة، تتكون لديه صورةٌ للمكان المراد تطهيره على أنه أرضٌ مدنّسةٌ بسبب عرق ما، ويتحول المعتدي إلى بطلٍ لا يملك إلا أن يشنّ حربًا لتطهره من دنس هذا العرق. وبذلك إيحاءٌ بأن المعتدي شريفٌ يقوم بعملٍ نبيلٍ يدافع به عن نفسه وأرضه، بل وقد يتمادى في نفاقه ليخبرنا أنه في حربه يجاهد ليعلي كلمة الحق، وهل هناك من هو بحاجة للتطهير أكثر ممن تملّكه الحقد فشرع في إبادة كل أشكال الحياة والعمران وقتل شعب بأكمله؟

إن الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع

وللتخفيف من الصورة الحقيقية لما يخلفه المعتدي الظالم من سحق للبنى التحتية والمعالم العمرانية والمؤسسات والبساتين والأشجار المعمّرة وجميع مصادر رزق الناس وتلويث مياههم وقتل الغفير منهم، يستخدم مؤيدو الغاصب عبارة "آثار جانبية"، وكأن كل هذا الدمار والخراب جاء عن طريق الخطأ ودون أي تعمد، بل هو ضريبةٌ صغيرةٌ يتكبدها "المُطهّر العرقيّ" جزاءً له على عمله التطهيريّ النبيل؛ وهذه هي الصورة المراد ترسيخها في ذهن المستمع والقارئ. يحجب هذا الاستخدام المعنى الصحيح للعمل الشنيع الذي قام به المعتدي، فيلطف حدّة الآثار المأساوية التي لحقت بالمواطنين وممتلكاتهم وأساسيات حياتهم، ويعمل على تقزيم المعاناة والعذاب الذي سببه لهم  الاعتداء المسلح غير الإنساني.

وأما وصف العلاقة بين طرفين متخاصمين على أنها "صراع" دائرٌ بينهما، ففي ذلك إيحاءٌ بعدم تجانس الطرفين بسبب اختلاف أفكارهم، أو أهدافهم، أو اهتماماتهم. وفي حالات "الصراع" هذه، هناك قابلية للتدخل والإصلاح وبناء السلام بين المتصارعين، بينما الواقع هو أن المحتل، المعتدي، الغاصب، صاحب السلاح المدعوم من أقوى قوى العالم، قد سرق أرض شعب فحرق زيتونها واستباح بساتينها وفجّر بيوتها ودمر مؤسساتها، وسجن من سجن وقتل من قتل وبتر من أطرافهم ما استطاع وحرم من بقي حيًّا من أولادهم و آبائهم وأقرانهم، وانهال عليهم بالصدمة النفسية تلو الصدمة النفسية، فطبع في أذهانهم مشاهد وحشيّةً لن يشفوا منها ما داموا على قيد الحياة.. بالأحرى، فقد حاول منع بوارق الأمل كلها عنهم.

لا نستغرب هذه اللغة المليئة بالكذب والإيحاءات الصادرة عن غاصبٍ أو داعم له، فمن خان الحق والإنسانية والقيم، لن يرف له جفن إذا كذب، بل من المتوقع منه لا أن يفجُر عند المخاصمة فحسب، بل أن يكذب عندما يتحدث. وعليه، فإنّ الأكاديميين والإعلاميين وصنّاع المحتوى ملزمون أخلاقيًّا بتقديم النموذج الواضح الدقيق في استخدام اللغة لتعبر بدقة عن الواقع، وأن لا يشرعوا في تكرار ما يقدمه الآخرون من مصطلحات وتعابير دون فحصها والتأكد من دقتها  لتعكس الحقيقة والواقع، وعلى الجمهور المتلقي أن لا يقبل إلا أن يقدم له ما هو صادق خال من الكذب والخداع.  

Wednesday, February 14, 2024

تعزيز النزاهة الأكاديمية في المؤسسات التربوية

 تأليف: سهام العموش و آمال فرحات

نشر في:  28 كانون الثاني 2024 في موقع مبادرة الشرق الأوسط/جامعة هارفرد

ترجمة: وفاء السكران

مراجعة لارا الخطيب

النزاهة الأكاديمية: المعنى والتعريف

تعرّف منظمة المقاييس والجودة للتعليم الثالثي الاسترالية (TEQSA) النزاهة الأكاديمية ب” ضرورة عمل المعلمين، والطلاب، والباحثين، وجميع أعضاء المجتمع الأكاديمي بما يتفق مع الأمانة، والثقة، والعدالة، والاحترام، وتحمل المسؤولية“. وبالرغم من ذلك، فإن النزاهة  ليست حصرا على المجتمعات الأكاديمية؛ الجميع ملزم، في مرحلة ما أوأخرى من حياتهم، باتخاذ خيارات أدبية أو أخلاقية نبيلة. وقد يسبب هذا الالتزام ضغط على الفرد، حيث أن الاختيارات الأدبية والاخلاقية قد لا تكون مفيدة على الدوام وقد تتعارض مع الأهداف الشخصية.

قيم النزاهة الأكاديمية

تتضمن النزاهة الأكاديمية مجموعة من المبادئ والقيم التي تتطلب منا التصرف بحس المسؤولية، والعدالة، والأمانة، والاحترام (TEQSA 2021). وهذا يعني أن تنهج حياتنا المهنية نهج الأخلاق، ويكون لدينا الشجاعة الكافية لاتخاذ الخيارات الصحيحة، والتصرف بشكل مشرف كعضو في مجتمع. وتدور النزاهة الأكاديمية حول شخصياتنا وكيف نتصرف في المواقف الحاسمة بالرغم من الضغوطات الممارسة علينا.

لماذا النزاهة الأدبية مهمة؟

يعدّ الالتزام بالنزاهة الأدبية في المؤسسات أمرا حيويا حيث أنه يؤكد على العمل المستند إلى الأمانة، والثقة، والاحترام ويضمنه. كما وتعتبر النزاهة الأكاديمية عنصرا حيويا في سلسلة الإمدادات للواجب الأخلاقي في مؤسسات التعليم العالي. ويبني الالتزام بمعايير اخلاقية عالية الثقة بين الأطراف المعنية المختلفة في المؤسسة التي تضمن مصداقية الدرجات والمخرجات الأكاديمية الأخرى للمؤسسة. وكذلك، يعزز بيئة يركز فيها الطلاب، والباحثون، وكافة الأكاديميين على التعلم الحقيقي الذي يعدّ ضروريا للمؤسسة كي تنجح و تكتسب السمعة الطيبة والثقة. ولا ننسى أنه عندما تكون قيم النزاهة الأدبية ذات أولوية، يصبح من المرجح أن يكتسب الطلاب والأكاديميين القيم التي تحفز سلوكياتهم ليس فقط داخل المؤسسة لكن في الأدوار المختلفة التي يؤدونها في حياتهم، والذي بدوره يساعد في ارتقاء مواطنين ذوي أخلاق في الأمة بوجه عام. ومن المرجح أن ترتبط العدالة والمساواة بثقافة المؤسسة. وهذا يضمن أن يحصل الجميع على فرص متساوية و يعاملوا بعدالة.

إنشاء بيئة للنزاهة الأكاديمية

يجب أن يكون المعلمون استباقيي الفعل وليس ذوي ردة فعل في هذا النطاق. ومن الممكن رؤية ذلك في خلق الفرص للنقاش وحل المشكلات قبل ظهور المشكلات والتحديات، وفي إتاحة الوقت لإيجاد خيار مناسب للرد. التالي بعض الممارسات التي قد تدعم تعليم النزاهة الأكاديمية للطلاب وتطبيقها:

  • ابدأ بتعريف المبادئ الأساسية الستة للطلاب حول الأمانة، والاحترام، وتحمل المسؤولية، والعدالة، والجدارة بالثقة، والشجاعة- أو ما يسمى بالقيم العالمية.
  • بالتعاون مع الطلاب والمتبقي من الطاقم التدريسي، عرّف السلوكيات التي تتفق مع القيم المحددة. إحدى الطرق للقيام بذلك كتابة القيم على الجهة اليسرى من ورقة كبيرة الحجم. أضف عمودين، أحدهما للطلاب والآخر للطاقم التدريسي، حيث يحددون السلوكيات المطلوبة، في العمود المخصص لهم، للالتزام بكل قيمة. ويجب على المشاركين مناقشة أهمية تعريف القيم والسلوكيات وكيف يؤثر هذا على عملهم وعلاقاتهم. 
  • أنشئ قواعد سلوك اجتماعية للسلوكيات المرجوة. ويعمل هذا كإطار عمل فعّال للتربويين والطلاب على حد سواء. أولا، يتيح للمعلمين فرصة تحديد وجهات النظر المشتركة للتوقعات الرئيسية و يشجع على السلوك الأخلاقي عندما يتشارك جميع الأفراد فهم ضمني لما هو صواب. بالإضافة إلى ذلك، سيدرك الطلاب أن خرق هذه القيم غير مقبول حتى بين الأقران.
  • ابدأ نقاش غير تزامني عن بعد واتبعه بمناقشة صفية. وقد تشجع رسالة تذكيرية جيدة التوقيت ممارسات الطلاب وتحفزها في كل مهمة أكاديمية، سواء كان ورقة بحث أو نشاط تقييمي. وبالإضافة لذلك، قد يكون من المفيد للطلاب تأمل هذه القيم بعد إنهاء مهامهم لمناقشة ازدياد فهمهم الضمني للقيم في ممارساتهم وازدياد تطبيقها، وبالتركيز على كيفية تغيرهم، و ما هي المعوقات التي واجهوها، وما هي المخاوف التي لديهم. وبالنتيجة، يستطيع الطلاب اقتراح تعديلات على الممارسات وبذلك يتجهون للقيم بشكل أفضل. قد يكون هذا ذو فائدة كبيرة نحو اتفاق جماعي. 
  • يعدّ الإبقاء على ممارسة هذه القيم للمعلمين أمرا ضروريا، ذلك يجب أن يمثل التربويون نموذجا للسلوكيات المأمولة من الطلاب. يضع هذا معايير للطلاب و يمنحهم  فرصة لرؤية السلوك المطلوب.

خلاصة القول فإن المعلمون مسؤولون عن خلق ثقافة للنزاهة الأكاديمية التي تسهل تعلم الطلاب و تضمن أن الدرجات التي يحصلون عليها تعكس مستواهم الحقيقي وأن الشهادات هي انعكاس معرفتهم وقدراتهم.

تعزيز النزاهة الأكاديمية في عصر الذكاء الاصطناعي (AI) 

مع التطور الهائل في أدوات الذكاء الاصطناعي و سهولة استخدام الطلاب لها لتكوين الواجب المدرسي، أصبح من الضروري خلق ثقافة النزاهة بين الطلاب ومساعدتهم على المشاركة في ممارسات تنطلق من القيم العالمية المحددة مسبقا. يحتاج التربويون مناقشة الطلاب حول نقاط التقاطع بين النزاهة الأكاديمية وفائدة أدوات الذكاء الاصطناعي، وما السياسة التي من الواجب الالتزام بها عند القيام بكل وظيفة مدرسية أو مهمة أكاديمية. و كممارسة فضلى، يجب أن يبدأ المعلمون المنهاج وشرح لطلابهم الى أي درجة يسمح لهم استخدام الذكاء الاصطناعي، و كيفية ربط استخدامه بالنزاهة. ويجب إعادة النظر في  هذه السياسة و مناقشتها قبل كل مهمة مدرسية.

لتحديد إذا كان باستطاعة الطلاب استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي للقيام بمهمة مدرسية، فيجب أن يربط المعلمون معايير المهمة المدرسية بأهداف التعلم و توضيح ما يمكن أن ينتجه الطلاب باستخدام الذكاء الاصطناعي. ويجب شرح معايير التقويم والأخذ بعين الاعتبار استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. وقد يطلب من الطلاب تأمل عملية القيام بالمهمة الدراسية كخطوة إضافية. يمكن أن يساعد تطبيق تأمل العملية كممارسة الطلاب على التفكير الناقد حول أعمالهم الخاصة بهم و الدور الذي لعبه الذكاء الاصطناعي أثناء العملية.

بالإضافة الى وضع سياسة و توقعات متعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي بوضوح كبير، فإنه من الضروري أن يحدّث المعلمون منهجيات التدريس لديهم وأن يبتكروا مهام مدرسية تعزز تجربة تربوية هادفة للطلاب وذلك لأنهم لا يمكنهم الاعتماد بشكل كلي على الذكاء الاصطناعي. التالي بعض التوصيات المفيدة في هذا الصدد:

  • تطبيق التعلم المبني على المشاريع ليمارس الطلاب مهارات التفكير العليا.
  • تضمين تأمل الطلاب للنتاجات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي.
  • دمج عنصر التأمل الذاتي في تقويم الطلاب.

وأخيراً، من الضروري تقييم الطلاب بناءا على العملية وليس فقط المنتج. سوف يعزز هذا نقاش الطلاب حول تطورهم أثناء عملية الكتابة.

مصادر

https://www.teqsa.gov.au/students/understanding-academic-integrity/what-academic-integrity

https://www.monash.edu/student-academic-success/maintain-academic-integrity/what-is-academic-integrity-and-why-is-it-important#tabs__2816746-03

Sunday, February 4, 2024

مدينة بلا زهور

إقرأ المقال في مدونات العربي الجديد

زرت منذ مدة إحدى المدن الكبيرة العريقة، مدينةٌ تعجّ بالحركة والحياة؛ طرقاتها مكتظة بالمشاة والسيارات والدراجات والتوكتوك والبائعين، ومحالها ومقاهيها ومطاعمها تزخر بالزبائن.. وفي الخلفية أصوات المدينة تنظُمها أبواق الحافلات، وضجيج الناس، والموسيقى الصاخبة الصادحة من كلّ حدبٍ وصوب.

تُجالس أناس هذه المدينة النشيطة وترتاح لفيضِ طيبتهم ونقائهم وكرمهم، وبساطة سلوكهم ومزاحهم وضحكاتهم، إلّا أنّ مدينتهم خاليةٌ من الزهور! تتجوّل في طرقات هذه المدينة فلا ترى زهرة واحدة، بريّة كانت أو منزلية. مدينة رماديّةٌ خالية من الألوان. عجيب أمر هذه المدينة! ألا يحتاج أهلها بعض الجمال ليخفّف عنهم شيئاً من عبءِ الحياة وقسوتها؟

تأخذي تساؤلاتي إلى الدوحة التي أعيش فيها، إلى جمالِ الزهور التي تحيط بالمنازل رغم طبيعة البلاد الصحراوية؛ ثمّ أسرح فأصل إلى أوتاوا الكندية التي أمضيت فيها جزءاً لا بأس به من حياتي، فأستذكر كيف يُسارع الناس إلى زراعة الزهور المتنوّعة ليتمتّعوا بجمالها ما أمكنهم خلال أشهر الصيف القصيرة، قبل عودة الصقيع القطبي الذي يقضي على كلّ ما زرعوه في الصيف.

تأخذني الذاكرة إلى ضيعتي اللبنانية الصغيرة، إلى الرفيد، التي تتنافس نساؤها في تجميل بيوتهن من الداخل والخارج بالأزهار والوورد، بعضها محلّي وبعضها الآخر مستورد. ففي كلّ واحدةٍ من هذه الأماكن المحبّبة إلى قلبي يسعى الجميع، كلٌّ على طريقته، لجعلِ المنظر العامّ جميلاً من خلال زراعة الزهور، ونشرِ الألوان في محيطِ بيوتهم، ليساهموا بذلك في صناعة الجمال الكلّي لمدينتهم أو بلدتهم.

ويفرض السؤال نفسه هنا: ما الذي يصرف اهتمامَ كامل سكان مدينة ما عن العناية بجمال المحيط الذي يقطنون فيه؟ لماذا هذا الانفصال التامّ بين المواطن والمساحة، فلا يبالي بغرسِ نبتةٍ في محيط منزله تُضفي بعضًا من الخضرة والجمال والأناقة على بيته وحارته؟ ليس انعدام الزهور في مدينة بأكملها مجرّد إهمال بشري لعنصرٍ جمالي طبيعي، بل هو مؤّشر لما هو أعمق بكثير: قد يكون ذلك انعدام شعور المواطن بالانتماء للمكان الذي يعيش فيه، أو غياب إحساسه بالأمن والأمان في محيطه، أو قد يكون ردّة فعل منه على مدينته التي أهملته وتجاهلت حاجته للحماية والراحة والاهتمام!

ما الذي يصرف اهتمام كامل سكان مدينة ما عن العناية بجمال المحيط الذي يقطنون فيه؟

أحبّ المشي، ومن عادتي أن أمشي بضع كيلومترات يومياً، لكنّ شبح الحذر والخوف لا يكفّ عن مطاردتي بينما أمشي في الشوارع الضيّقة غير المعبّدة لهذه المدينة الشاحبة. أمشي خائفةً من الوقوع بسبب حجر يعترضني، أو حفرة تفاجئني، أو سيارة اختار سائقها أن يسبقني بينما أهمّ باجتياز الطريق ضارباً عرض الحائط مبدأ "الأولوية للمشاة".

يتجاهل أصحاب المحالّ التجارية حاجة المشاة إلى رصيف يطمئنّون للمشي عليه، فيجتاحونه لتوسعة محالّهم ومقاهيهم، أو يبذرون النفايات عليه وينشرونها في المساحات الفارغة هنا وهناك. ثم ترى محاولة بائسةً من هيئة الأشغال العامة لإنشاء جسر يُيسّر حركة السيارات، لكن الجلي أنه لن يُستكمل في المدى المنظور، وهو ما تشي به قضبان الحديد المغلّفة بالصدأ والغبار المستخدمة في بنائه، ما يزيد من خطورة تحرّك المشاة والسائقين ويعطي بُعداً آخر لشحوبِ المكان مؤكّداً إهمال الفضاء.

السيارات والحافلات والدراجات الهوائية والنارية والأفراد وبعض الحيوانات، كلّهم يسيرون في الطريق ذاته دون أيّة ضوابط تحكم كيفية سيرهم. أصوات متداخلة، وزمامير من آليات النقل والسيارات، ومكبّرات الصوت في المقاهي، وصراخ البائعين... تمشي في الطريق وتدعو الله أن تنجو في خضم تلك الفوضى والتشوّش والضوضاء. كلّ هذا انعكاسٌ لعدم إيلاء السلطات المسؤولة أيّ اهتمام بالجانب الجمالي في المساحات العامة وجعلها آمنة ومحبّبة للعيش.  

عندما تهتم السلطات بالأماكن العامة من خلال توفير الخدمات، كخدمات تنظيم السير وتنظيف الشوارع والأرصفة أو توفير المساحات الواسعة والنظيفة والآمنة لتيسير حركة السكّان، وعندما تُفرض القوانين لتشجّع الأفراد على السلوك الذي يجعل حياتهم أكثر انتظاماً، عندها تدب الروح في المدينة، فتنبض بالحياة وتنتعش. وينعكس ذلك على المواطن، فيشعر هو الآخر بالأمان لوجود من هو مسؤول عن رفاهه وسعادته، وتتوّطد العلاقة بينه وبين محيطه، فيزيد فخره بانتمائه إليه، ما يدفعه ليساهم في جعلِ المكان أكثر جمالاً ورونقاً. 

ليس انعدام الزهور في مدينة بأكملها مجرّد إهمال بشري لعنصرٍ جمالي طبيعي، بل هو مؤشر لما هو أعمق بكثير

العلاقة بين المدينة والقاطنين فيها علاقة وطيدة، فالمدينة التي تنعم بالاهتمام من أولي الأمر تُشعر قاطنيها بالانتماء، ولذلك يقع على عاتق المسؤولين أمر العناية بالمساحات العامة، وتقديم الخدمات اللازمة لتجعل المواطن فخوراً بالمكان الذي ينتمي إليه. وإذا حصل ذلك، فمن المؤكد أنّ هؤلاء القاطنين سيولون مسألة الاهتمام بمحيطهم وتجميله الأهمية اللازمة. وعندها فقط تبدأ الألوان والزهور بالانتشار، لتُضفي روحاً على المدينة وتجعلها تتألق فتسر أهلها، وأيضًا القادمين إليها. 

الإنسان بطبيعته يحب الجمال ويأنس له، ويشعر بالأمان والراحة في الأماكن الجميلة، فمن الظلم ألّا تُولي السلطات الاهتمام بالمساحات العامة، لأنّها بذلك تحوّل أي مكانٍ إلى فضاءٍ بائس يقطنه من لا يهتم لجماله. فمكانٌ خالٍ من الزهور هو مكان خالٍ من الجمال.

Tuesday, January 30, 2024

Fostering Academic Integrity in Educational Institutions

 Published on MEPLI's Harvard Graduate of School Website

By: Siham Al Amoush & Amal Farhat

Academic Integrity: Meaning and Definition

The Tertiary Education Quality and Standards Agency in Australia (TEQSA) defines academic integrity as “the expectation that teachers, students, researchers and all members of the academic community act with honesty, trust, fairness, respect and responsibility”. However, integrity is not exclusive to academic communities; everyone, at one point in their lives or another, is obligated to make moral choices or good ethical decisions. This obligation might exert pressure on the individual, as moral and ethical choices may not always be advantageous and could conflict with personal aims.

Academic Integrity Values

Academic integrity includes a set of principles and values that require us to act responsibly, fairly, and with honesty and respect (TEQSA 2021). This means that our professional life should be approached ethically, having sufficient courage to make the right choices, and acting honorably as a community member. Academic integrity is about our character and how we behave in critical situations despite the pressure exerted upon us.

Why is Academic Integrity Important?

Maintaining academic integrity in institutions is vital as it emphasizes and guarantees work underpinned by honesty, trust, and respect. Academic integrity is a vital component of higher education institutions’ moral duty supply chain. Upholding high moral standards builds trust among the different stakeholders of the institution which ensures the credibility of the degrees and other academic output of the institution. Moreover, it fosters an environment where students, researchers, and all academics are focused on real learning which is essential for an institution to thrive and gain reputation and trust. Not to forget that when the values of academic integrity are a priority, students and academics are more likely to acquire values that drive their actions not only inside the institution but in the different roles they hold in their lives, which will help in the development of moral citizens in the nation at large. Equity and fairness are more likely to become intertwined in the culture of the institution. This ensures that all are given equal opportunities and are treated fairly.

Establishing a Context for Academic Integrity 

 Teachers should be proactive rather than reactive in this regard. This can be seen as generating opportunities for discussion and problem-solving before issues and challenges arise, providing  the time to figure out an appropriate option for response. The following  are some practices that can support students’ academic integrity education and application:

  • Start by identifying the six core principles for the students of honesty, respect, responsibility, fairness, trustworthiness, and courage—or what are  referred to as universal values. 
  • In collaboration with the students and the rest of the instructional team, identify the behaviors that correspond with the identified values. One way to do this is by writing the values on the left-hand side of a large sheet of paper. Add two columns, one for students and another for the instructional team, where they list the behaviors, in their respective columns, that would be required to uphold each value. Participants should discuss the importance of identifying the values and behaviors and how this impacts their work and relationships.
  • Establish social norms for expected behavior. This serves as an effective framework for educators and students alike.  Firstly, it allows teachers to recognize shared views on role expectations and encourages moral behavior when all individuals share an understanding of what is right. Additionally, students will know that violating these values is not acceptable even among peers. 
  • Launch an asynchronous discussion and follow it with in-class conversation. A well-timed reminder can boost and revitalize students’ practices at every academic task, be it a research paper or an assessment activity. Additionally, it may be beneficial for students to reflect on these values after they complete their tasks to elaborate on the growth of their understanding and application of values in their practice, highlighting how they have changed, what obstacles they have encountered, and what concerns they have. As a result, students can suggest modifications to practices so that they are better aligned with the values. This can be of great value toward a collective understanding. 
  • Sustaining the application of these values by the teacher is crucial, so educators should model the behaviors they expect from students. This sets the standards for the students and provides the opportunity to observe the required behavior. 

A take-home message is that teachers are responsible for initiating a culture of academic integrity that facilitates student learning and ensures that the grades they receive reflect their actual level and that the certifications are reflective of their knowledge and abilities.


Fostering Academic Integrity in the Age of Artificial Intelligence (AI)

With the vast development of AI tools and the ease of students using them to generate their assignments, it becomes crucial to create a culture of integrity among students and help them engage in practices that are driven by the already identified universal values. Educators need to discuss with students the intersection of academic integrity and use of AI tools, and what policy they must refer to when working on each assignment or academic task. As a best practice, teachers should start with the syllabus and clarify for their students the degree they are permitted to use AI, and how to link its use with academic integrity. This policy should be revisited and discussed before every assignment.

To decide if students can use generative AI for an assignment, teachers should link the assignment parameters with the learning objectives and clarify what students can produce using AI. Assessment criteria should be clarified taking into account the use of AI tools. Students may be asked to reflect on the process of working on their assignment as an additional step.  Adapting reflection on the process as a practice can help students think critically about their own work and the role that AI played during the process.  

In addition to making policy and expectations regarding AI usage abundantly clear, it is mandatory that teachers update their pedagogies and create assignments that promote meaningful educational experiences for the students for which they are unable to completely rely on AI. The following are some recommendations to help in this regard:

  • Implement project-based learning so that students utilize their higher-order thinking skills.
  • Include the student’s reflection on the outcome generated by AI.
  • Integrate a self-reflection component in the student’s assessment.

Finally, it is vital to evaluate students based on the process and not only the product. This will enhance students’ discussion of their progress during the writing process. 

Resources

https://www.teqsa.gov.au/students/understanding-academic-integrity/what-academic-integrity

https://www.monash.edu/student-academic-success/maintain-academic-integrity/what-is-academic-integrity-and-why-is-it-important#tabs__2816746-03

AI in Education (trubox.ca)

Wednesday, January 17, 2024

غزّة.. مجتمع تعلّمي وتعليمي لأهلها وللعالم

إقرأ المقالة  في مدونات العربي الجديد

تقف طفلة لا يتجاوز عمرها العشر السنوات، منتصبة القامة، تنظر في وجه الإعلامية التي تحدّثها لتعبّر عن أفكارها بوضوح وتدلّل على ما تقول بكلمات من أنشودة "أنا دمي فلسطيني"، مستخدمةً التكرار للكلمات المفتاحية لتؤكّد لمستمعيها على فكرتها الرئيسية. تستخدم الصور البيانية، تدعم أفكارها بحركات يديها وتعابير وجهها، وتستحضر الشواهد التي تدعم وجهة نظرها.

كلّ هذا انعكاس لمهارات نعلّمها في صفوف الخطابة عن التعبير الواضح ومواجهة الجمهور. لكنْ، لا أظن أنّ بنت الصّف الثالث إعدادي هذه تسنّت لها الفرصة لتأخذ صفّاً في الخطابة والتحدّث الارتجالي. أضف إلى ذلك أنّها تعاني من الجوع والبرد ونقص الأدوية والأمان، كما تبيّن لاحقاً من حديث الإعلامية معها.

يتّفق العديد من التربويين على أنّ السمات الأساسية للتعليم الفعَّال هي أنه يلبّي احتياجات المجتمع من خلال إعطاء الأولوية لتعليم المهارات على تعليم المعارف والمعلومات، لأنّ المعلومات باتت متوفرة في متناول الجميع، خاصّة في أيامنا هذه، وأنّ التعليم الجيّد يعتمد على التحفيز الذاتي أكثر من التحفيز الخارجي، وأنّ تعليم الحوار أساسي لتعليم التّواصل الفعّال، وتمكين المتعلّمين من المشاركة كأفرقاء متساوين في أيّ نشاط يندمجون فيه هو أمر ضروري لبناء الإنسان المفكّر، الحر، وأنّ التعلّم الجيد هو الذي يكون المتعلّم فيه شغوفاً بالمادّة الدّراسية، مدركاً أنّ ما يتعلّمه له قيمة حقيقة في حياته. 

أعود لابنة العشر سنوات. من الواضح أنّ السّمات الأساسية للتعليم لم تُلبَّ في المدرسة التي تذهب إليها، وهي، بالأصل، لا تذهب إلى أيّة مدرسة، لأنّه لم يعد هناك مدرسة في محطيها لتذهب إليها! يعني أنّها لا تتعرّض لتعلّم المهارات ولا المعلومات. ولا وجود في حياتها للمحفّزات، سواء كانت خارجية أو داخلية. وما الذي يحفّز طفلة للتعلّم، وهي تعاني من الجوع والبرد وانعدام الأمان؟ شهادة تميّز؟ أم تصفيق الزملاء؟ أم الإنذار بالحرمان من دخول الصّف أو التخويف من إرسالها إلى مكتب المدير؟ هي محرومة من الأمن والأمان والطعام والدفء والأهل والطفولة، حرمان باتساع المدى، لا ينتهي بنهاية حصّة دراسية، ولا يوم أو فصل أو عام دراسي. حرمان سيبقى كابوساً يلاحقها مدى حياتها. وأيّ تخويف سيؤثّر في هذا الطفلة، التي تواجه أقسى جبروت العالم وحدها، بجسدها الصغير؟ فأيّ إجراء إداري سيخيفها، وأيّة رسالة لوالديها (إن كانا على قيد الحياة) ستؤثّر بها؟ 

التعلّم الجيد هو الذي يكون المتعلّم

 فيه شغوفاًبالمادّة الدّراسية،

 مدركاً أنّ ما يتعلّمه له قيمة حقيقة في حياته

وإن تحدثنا عن تمكين المتعلّم من خلال المشاركة بشكل متساوٍ مع أقرانه، وإعطائه الحقّ في التعبير عن حاجاته، فهذان أمران ليسا في المنال لتلك البنت الصغيرة. هي، كما قالت لمحدّثتها، قد خسرت كلّ بنات صفها نتيجة القصف الذي هدّم مدرستها. ويبقى السؤال: كيف اكتسبت هذه الفتاه هذه القوّة والصّلابة والوضوح، بل هذا البيان والفصاحة والبلاغة في التعبير عن أفكارها وفهمها لما يحصل حولها رغم مصابها؟! 

أفضل أنواع التعليم يحصل عندما تكون التجارب التعلّمية جزءاً واقعياً من مجتمع المتعلّم، لأنّ من شأن ذلك أن يوفر له فرصة حقيقية ليتفاعل مع أقرانه ومن يكبره أو يصغره سناّ، وأن يُعايش التجارب الحياتية بتفاصيلها، وأن يكون عنده المتسع من الوقت ليفكّر ويجرّب ويتفكّر في تجاربه التعلّمية ويكون عنده الفرصة لأن يعدّل سلوكه ويعيد التجربة. ومن الممارسات التي تدعو إليها طرائق التدريس الحديثة إعطاء الحرّيّة للمتعلّم ليختار الطريقة التي يفضّل أن يتعلّم بها، وإعطاؤه الخيارات في التعبير عمّا تعلّمه، فلا يكون التعليم بمقياس واحد للجميع، بل يُفصَّل لكلّ متعلّم حسب قدراته، ومهاراته، واهتماماته. وهذا ما نجد صعوبة بالغة في تطبيقه في مدارسنا اليوم، فمتعلّمونا محكومون في تعلّمهم بمجموعة من قيود المنهج الموضوع مسبقاً، والمستوى المحدّد سلفاً، وأداء المعلّم وتفاعل الزملاء دون أن يُعطى الواحد منهم ما يناسبه وينسجم مع شخصيته وخصوصيته. كما أنّ الوقت المرصود للتجارب التعليمية محدَّد ببداية ونهاية، وقتٌ يحدّده المعلّم وإن لم يلائم المتعلّمين، فمنهم من ينهي عمله بسرعة تفوق سرعة أقرانه، ومنهم من يحتاج إلى وقت أطول ليفكر وينتج. أضف إلى ذلك أنّ حياة الطفل المدرسية كلّها محكومة بجرس المدرسة الذي يحدَّد متى يدخل إلى صفه، ومتى يحقّ له أن يأكل "سندويشته"، ومتى عليه الانتقال من نشاط يعمل عليه إلى نشاط آخر، ومتى عليه أن ينهي اندماجه في مادّة دراسية معينة لينتقل إلى مادّة أخرى، وكأنّ الالتزام بما يمليه عليه ذلك الجرس أهمّ من العمل الدراسي الذي يقوم به! ما يعني أنّ الالتزام الزمني له أهمّية بالغة في التعليم، وأنّ التعلّم مقيَّد بالوقت والترتيب الزمني.

حياة الطفل المدرسية كلّها محكومة

 بجرس المدرسة الذي يحدَّد متى يدخل إلى صفه،

 ومتى يحقّ له أن يأكل "سندويشته"

هذه القيود لا تسمح للمعلّم، ولا المتعلّم، القيام بالتفكَّر في التجارب التعليمية والاستفادة من الأخطاء وإعادة النظر في الإجراءات، لأنّ الأولوية في مناهجنا تُعطى للتّسلسل في خطٍّ زمني مستقيم لا عودة فيه إلى الوراء. أمّا عن إعطاء الخيارات للمتعلّم، فهذا من الرّفاهيات التي لم يتمكّن نظامنا التعليمي توفيره، فلا المعلّم جاهز لذلك، ولا البيئة المدرسية مجهّزة له، ولا الوقت المخصّص للتعليم يكفي، ولا الموارد في المؤسّسات التعليمية متوفّرة. ولذلك نجد الكثير من نتاجات التعلّم عبارة عن نتاجات مصطنعة لا تحاكي المطلوب في الحياة ولا تتمتّع بالعمق الذي يخدم الإنسان. 

قيود الوقت الصّارمة، وحصر تصميم التجارب التعليمية بيد المعلّم من شأنها أن تجعل المتعلّم اتكالياً على الآخر ليحدَّد له كيف يتصرف، ومتى وأين، ومع ذلك يطلب من المعلّم أن يعلِّم تلاميذه التفكير الناقد والمهارات القيادية والاستقلالية.

الحلّ الذي التفتت إليه التربية هو تحويل بيئة التعلّم إلى مجتمع تعلّمي، والمقصود بالمجتمع التعلّمي هو تحويل التجارب الصفّية وغير الصفّية إلى أحداث اجتماعية تتميّز بالتفاعل والتشارك والتعاون للوصول إلى الناتج التعلّمي المطلوب، وخلق تجارب تعلّمية تحتاج إلى التفاعل، ليس بين المتعلّمين فحسب، بل بين المعلّمين والمتعلّمين أيضًا. لكنْ، حتى مع كلّ المحاولات والأدبيات الدّاعمة لهذا التحوّل، في معظم الأحيان، لم تشقّ هذه النظرية طريقها إلى المدارس إلا بشكل سطحي، وفي تجارب متفرّقة، لا كنموذج متكامل. 

هل يمكننا اعتبار غزّة مدرسة حديثة،

 نتاجاتها التعليمية تعكس ما تهدف إليه

 النظريات الحديثة في التعليم؟

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أليس المطلوب من المعلّمين تصميم تجارب تعليمية لتلاميذهم تحاكي الحياة، وتجعلهم شركاء في إنتاج المعرفة وتحقيق الأهداف التعلّمية، وتحويل المدارس إلى مجتمعات تتّسم بالتفاعل الاجتماعي من خلال أهداف ووسائل موجودة أصلاً في الحياة الطبيعية للأطفال؟ لماذا نسلخ الطفل من مجتمعه الطبيعي ثمّ نزرعه في المدرسة ونسعى لتحويلها إلى مجتمع؟ لماذا نبعده عن تجارب حياته الطبيعية ثمّ نسعى لتصميم تجارب أخرى نحاول فيها أن نحاكي الحياة؟ ألم يئن الأوان لأن نُعيد النظر في كيفية تعليم الأطفال؟ أليس المنطقي هو ترك الأطفال في بيئتهم الطبيعية والبحث عن كيفية تعزيز تلك التجربة؟ 

لقد عبّرت تلك الطفلة ذات الأعوام العشرة في خطابها عن امتلاكها للعديد من المهارات التي استخدمتها بعفوية وتلقائية. من الواضح أنّها قادرة على اتخاذ قرارها بما تقول، وكيف تعبّر عنه، وهي تملك نظاماً قيمياً واضحاً يوجّه تفكيرها وسلوكها، وبالتالي حديثها وخطابها. تفكيرُها النّاقد في تقييمها لما يحصل لبلدها وأهلها، وفهمُها للأحداث ضمن ما يحصل في العالم واضح، أضف إلى ذلك قدراتها العالية في التحدّث، والإجابة عن الأسئلة والتواصل اللغوي. هل السبب في تفوّق هذه الطفلة، والكثير من أمثالها، هو انتماؤها لمدرسة غير المدارس التي نعرف؟ هل المجتمع التعلّمي الذي تنتمي إليه هو مجتمع طبيعي وأصلي، لا ذلك المجتمع المصطنع داخل جدران مدارسنا؟ هل هي من اختارت وتختار ما تعبّر عنه وبالأسلوب الذي هي تريده؟ هل سبب تفوّقها هو التصاقها بمجتمعها الطبيعي الذي تستوحي منه كيفية التصرّف، والذي تتعرّف منه على الحياة كما هي في الواقع المُعاش، وليست كما صمّمها التربويون؟ هل لنا أن نستوحي أفكاراً جديدة ندرجها في طرائق تعليمنا وتعاملنا مع الصغار؟ هل يمكننا اعتبار غزّة مدرسة حديثة، نتاجاتها التعليمية تعكس ما تهدف إليه النظريات الحديثة في التعليم؟ وهل يمكننا أن نستخلص من هذا النموذج ما يساعدنا في بناء مناهجنا وتصميم تجاربنا التعليمية وخططنا التدريسية؟