إقرأ المقالة في مدونات العربي الجديد
تقف طفلة لا يتجاوز عمرها العشر السنوات، منتصبة القامة، تنظر في وجه الإعلامية التي تحدّثها لتعبّر عن أفكارها بوضوح وتدلّل على ما تقول بكلمات من أنشودة "أنا دمي فلسطيني"، مستخدمةً التكرار للكلمات المفتاحية لتؤكّد لمستمعيها على فكرتها الرئيسية. تستخدم الصور البيانية، تدعم أفكارها بحركات يديها وتعابير وجهها، وتستحضر الشواهد التي تدعم وجهة نظرها.
كلّ هذا انعكاس لمهارات نعلّمها في صفوف الخطابة عن التعبير الواضح ومواجهة الجمهور. لكنْ، لا أظن أنّ بنت الصّف الثالث إعدادي هذه تسنّت لها الفرصة لتأخذ صفّاً في الخطابة والتحدّث الارتجالي. أضف إلى ذلك أنّها تعاني من الجوع والبرد ونقص الأدوية والأمان، كما تبيّن لاحقاً من حديث الإعلامية معها.
يتّفق العديد من التربويين على أنّ السمات الأساسية للتعليم الفعَّال هي أنه يلبّي احتياجات المجتمع من خلال إعطاء الأولوية لتعليم المهارات على تعليم المعارف والمعلومات، لأنّ المعلومات باتت متوفرة في متناول الجميع، خاصّة في أيامنا هذه، وأنّ التعليم الجيّد يعتمد على التحفيز الذاتي أكثر من التحفيز الخارجي، وأنّ تعليم الحوار أساسي لتعليم التّواصل الفعّال، وتمكين المتعلّمين من المشاركة كأفرقاء متساوين في أيّ نشاط يندمجون فيه هو أمر ضروري لبناء الإنسان المفكّر، الحر، وأنّ التعلّم الجيد هو الذي يكون المتعلّم فيه شغوفاً بالمادّة الدّراسية، مدركاً أنّ ما يتعلّمه له قيمة حقيقة في حياته.
أعود لابنة العشر سنوات. من الواضح أنّ السّمات الأساسية للتعليم لم تُلبَّ في المدرسة التي تذهب إليها، وهي، بالأصل، لا تذهب إلى أيّة مدرسة، لأنّه لم يعد هناك مدرسة في محطيها لتذهب إليها! يعني أنّها لا تتعرّض لتعلّم المهارات ولا المعلومات. ولا وجود في حياتها للمحفّزات، سواء كانت خارجية أو داخلية. وما الذي يحفّز طفلة للتعلّم، وهي تعاني من الجوع والبرد وانعدام الأمان؟ شهادة تميّز؟ أم تصفيق الزملاء؟ أم الإنذار بالحرمان من دخول الصّف أو التخويف من إرسالها إلى مكتب المدير؟ هي محرومة من الأمن والأمان والطعام والدفء والأهل والطفولة، حرمان باتساع المدى، لا ينتهي بنهاية حصّة دراسية، ولا يوم أو فصل أو عام دراسي. حرمان سيبقى كابوساً يلاحقها مدى حياتها. وأيّ تخويف سيؤثّر في هذا الطفلة، التي تواجه أقسى جبروت العالم وحدها، بجسدها الصغير؟ فأيّ إجراء إداري سيخيفها، وأيّة رسالة لوالديها (إن كانا على قيد الحياة) ستؤثّر بها؟
التعلّم الجيد هو الذي يكون المتعلّم
فيه شغوفاًبالمادّة الدّراسية،
مدركاً أنّ ما يتعلّمه له قيمة حقيقة في حياته
وإن تحدثنا عن تمكين المتعلّم من خلال المشاركة بشكل متساوٍ مع أقرانه، وإعطائه الحقّ في التعبير عن حاجاته، فهذان أمران ليسا في المنال لتلك البنت الصغيرة. هي، كما قالت لمحدّثتها، قد خسرت كلّ بنات صفها نتيجة القصف الذي هدّم مدرستها. ويبقى السؤال: كيف اكتسبت هذه الفتاه هذه القوّة والصّلابة والوضوح، بل هذا البيان والفصاحة والبلاغة في التعبير عن أفكارها وفهمها لما يحصل حولها رغم مصابها؟!
أفضل أنواع التعليم يحصل عندما تكون التجارب التعلّمية جزءاً واقعياً من مجتمع المتعلّم، لأنّ من شأن ذلك أن يوفر له فرصة حقيقية ليتفاعل مع أقرانه ومن يكبره أو يصغره سناّ، وأن يُعايش التجارب الحياتية بتفاصيلها، وأن يكون عنده المتسع من الوقت ليفكّر ويجرّب ويتفكّر في تجاربه التعلّمية ويكون عنده الفرصة لأن يعدّل سلوكه ويعيد التجربة. ومن الممارسات التي تدعو إليها طرائق التدريس الحديثة إعطاء الحرّيّة للمتعلّم ليختار الطريقة التي يفضّل أن يتعلّم بها، وإعطاؤه الخيارات في التعبير عمّا تعلّمه، فلا يكون التعليم بمقياس واحد للجميع، بل يُفصَّل لكلّ متعلّم حسب قدراته، ومهاراته، واهتماماته. وهذا ما نجد صعوبة بالغة في تطبيقه في مدارسنا اليوم، فمتعلّمونا محكومون في تعلّمهم بمجموعة من قيود المنهج الموضوع مسبقاً، والمستوى المحدّد سلفاً، وأداء المعلّم وتفاعل الزملاء دون أن يُعطى الواحد منهم ما يناسبه وينسجم مع شخصيته وخصوصيته. كما أنّ الوقت المرصود للتجارب التعليمية محدَّد ببداية ونهاية، وقتٌ يحدّده المعلّم وإن لم يلائم المتعلّمين، فمنهم من ينهي عمله بسرعة تفوق سرعة أقرانه، ومنهم من يحتاج إلى وقت أطول ليفكر وينتج. أضف إلى ذلك أنّ حياة الطفل المدرسية كلّها محكومة بجرس المدرسة الذي يحدَّد متى يدخل إلى صفه، ومتى يحقّ له أن يأكل "سندويشته"، ومتى عليه الانتقال من نشاط يعمل عليه إلى نشاط آخر، ومتى عليه أن ينهي اندماجه في مادّة دراسية معينة لينتقل إلى مادّة أخرى، وكأنّ الالتزام بما يمليه عليه ذلك الجرس أهمّ من العمل الدراسي الذي يقوم به! ما يعني أنّ الالتزام الزمني له أهمّية بالغة في التعليم، وأنّ التعلّم مقيَّد بالوقت والترتيب الزمني.
حياة الطفل المدرسية كلّها محكومة
بجرس المدرسة الذي يحدَّد متى يدخل إلى صفه،
ومتى يحقّ له أن يأكل "سندويشته"
هذه القيود لا تسمح للمعلّم، ولا المتعلّم، القيام بالتفكَّر في التجارب التعليمية والاستفادة من الأخطاء وإعادة النظر في الإجراءات، لأنّ الأولوية في مناهجنا تُعطى للتّسلسل في خطٍّ زمني مستقيم لا عودة فيه إلى الوراء. أمّا عن إعطاء الخيارات للمتعلّم، فهذا من الرّفاهيات التي لم يتمكّن نظامنا التعليمي توفيره، فلا المعلّم جاهز لذلك، ولا البيئة المدرسية مجهّزة له، ولا الوقت المخصّص للتعليم يكفي، ولا الموارد في المؤسّسات التعليمية متوفّرة. ولذلك نجد الكثير من نتاجات التعلّم عبارة عن نتاجات مصطنعة لا تحاكي المطلوب في الحياة ولا تتمتّع بالعمق الذي يخدم الإنسان.
قيود الوقت الصّارمة، وحصر تصميم التجارب التعليمية بيد المعلّم من شأنها أن تجعل المتعلّم اتكالياً على الآخر ليحدَّد له كيف يتصرف، ومتى وأين، ومع ذلك يطلب من المعلّم أن يعلِّم تلاميذه التفكير الناقد والمهارات القيادية والاستقلالية.
الحلّ الذي التفتت إليه التربية هو تحويل بيئة التعلّم إلى مجتمع تعلّمي، والمقصود بالمجتمع التعلّمي هو تحويل التجارب الصفّية وغير الصفّية إلى أحداث اجتماعية تتميّز بالتفاعل والتشارك والتعاون للوصول إلى الناتج التعلّمي المطلوب، وخلق تجارب تعلّمية تحتاج إلى التفاعل، ليس بين المتعلّمين فحسب، بل بين المعلّمين والمتعلّمين أيضًا. لكنْ، حتى مع كلّ المحاولات والأدبيات الدّاعمة لهذا التحوّل، في معظم الأحيان، لم تشقّ هذه النظرية طريقها إلى المدارس إلا بشكل سطحي، وفي تجارب متفرّقة، لا كنموذج متكامل.
هل يمكننا اعتبار غزّة مدرسة حديثة،
نتاجاتها التعليمية تعكس ما تهدف إليه
النظريات الحديثة في التعليم؟
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أليس المطلوب من المعلّمين تصميم تجارب تعليمية لتلاميذهم تحاكي الحياة، وتجعلهم شركاء في إنتاج المعرفة وتحقيق الأهداف التعلّمية، وتحويل المدارس إلى مجتمعات تتّسم بالتفاعل الاجتماعي من خلال أهداف ووسائل موجودة أصلاً في الحياة الطبيعية للأطفال؟ لماذا نسلخ الطفل من مجتمعه الطبيعي ثمّ نزرعه في المدرسة ونسعى لتحويلها إلى مجتمع؟ لماذا نبعده عن تجارب حياته الطبيعية ثمّ نسعى لتصميم تجارب أخرى نحاول فيها أن نحاكي الحياة؟ ألم يئن الأوان لأن نُعيد النظر في كيفية تعليم الأطفال؟ أليس المنطقي هو ترك الأطفال في بيئتهم الطبيعية والبحث عن كيفية تعزيز تلك التجربة؟
لقد عبّرت تلك الطفلة ذات الأعوام العشرة في خطابها عن امتلاكها للعديد من المهارات التي استخدمتها بعفوية وتلقائية. من الواضح أنّها قادرة على اتخاذ قرارها بما تقول، وكيف تعبّر عنه، وهي تملك نظاماً قيمياً واضحاً يوجّه تفكيرها وسلوكها، وبالتالي حديثها وخطابها. تفكيرُها النّاقد في تقييمها لما يحصل لبلدها وأهلها، وفهمُها للأحداث ضمن ما يحصل في العالم واضح، أضف إلى ذلك قدراتها العالية في التحدّث، والإجابة عن الأسئلة والتواصل اللغوي. هل السبب في تفوّق هذه الطفلة، والكثير من أمثالها، هو انتماؤها لمدرسة غير المدارس التي نعرف؟ هل المجتمع التعلّمي الذي تنتمي إليه هو مجتمع طبيعي وأصلي، لا ذلك المجتمع المصطنع داخل جدران مدارسنا؟ هل هي من اختارت وتختار ما تعبّر عنه وبالأسلوب الذي هي تريده؟ هل سبب تفوّقها هو التصاقها بمجتمعها الطبيعي الذي تستوحي منه كيفية التصرّف، والذي تتعرّف منه على الحياة كما هي في الواقع المُعاش، وليست كما صمّمها التربويون؟ هل لنا أن نستوحي أفكاراً جديدة ندرجها في طرائق تعليمنا وتعاملنا مع الصغار؟ هل يمكننا اعتبار غزّة مدرسة حديثة، نتاجاتها التعليمية تعكس ما تهدف إليه النظريات الحديثة في التعليم؟ وهل يمكننا أن نستخلص من هذا النموذج ما يساعدنا في بناء مناهجنا وتصميم تجاربنا التعليمية وخططنا التدريسية؟
No comments:
Post a Comment