Wednesday, November 19, 2025

غزّة والحقيقة التي نخاف الاعتراف بها

تقرأون المقال في العربي الجديد 

طالما كتبتُ عن صمود أهل غزّة وقوّتهم وجبروتهم في مواجهة آلة الطغيان الإسرائيلي، واستشهدت بما رأيته على وسائل الإعلام التي أضاءت ذلك الجانب الجبّار من الشعب الفلسطيني، وأظهرت الوجه الذي أشعرنا بالعزّة والفرح واقتراب النصر. 

ولكنّنا مؤخراً صرنا نرى ذلك الإنسان المقهور الذي يتعمّد عدّوه إذلاله بحجب أدنى وسائل العيش عنه، ليظهره ضعيفاً مُنهكاً، يقف في طوابير طويلة لا تنتهي لعلّه يحصل على حفنةٍ من طحين لا تسدّ رمق طفلٍ واحد من عائلته. بتنا نسمع عبر الفضائيات عباراتٍ تعكس قهر أم تهمس بصوتٍ خافت: "معنّاش أكل... معنّاش شي نشتريه"، أو صرخة أبٍ ملكوم: "مفيش شي نطعميه لأولادنا". 

هذا التحوّل في الصورة الإعلامية لأهل غزّة صدمني في البداية. كنت أرى الغزيّ صلباً، لا يضعف ولا ينكسر أمام أعتى آليّات الحرب وأشرسها. كنت أشعر بشيء من الراحة كلّما رأيته صامداً، لا تفتر عزيمته مهما اشتدّت عليه المُحن. لكن الحقيقة مختلفة. الفلسطيني مُنهكٌ، مُتعب، أرهقته الحرب، والقلّة، والجوع، والعزلة، والخذلان. جراحه عميقة، وخسائره لا تعوّض، يصمد ويصبر لأنه لا يملك سوى ذلك. هذا هو الواقع، وهذا ما علينا الاعتراف به. 

فهل نحبّ أن نرى الغزيّ قوياً لنعفي أنفسنا من عبء التعاطف مع الحقيقة التي يعيش؟ هل تحمينا صورة الصمود تلك من مواجهة عجزنا، فتبقينا على مسافةٍ آمنة من الآلام والمعاناة؟ هل هذه هي طريقتنا للهروب من مسؤوليتنا تجاه شعب أعزل، يربطنا به التاريخ، والجغرافيا، والدين، والإنسانية؟ 

نحن المُتفرّجون على المعاناة، المُراقبون من مسافاتنا البعيدة الآمنة، الجالسون في بيوتنا الدافئة، نخاف الاعتراف حتى لذواتنا بخوفنا وعجزنا. نعوّض ضعفنا بالتصفيق لصور الصامدين، ونتخذ من تصفيقنا هذا قناعاَ لضعفنا. 

هل يحتاج من أتعبته الحرب لمن لا يملك القوّة ليواجه نفسه ويعترف بمصاب أخيه؟ وهل نحن فعلاً قادرون على دعم شعب جُرِّد من كلّ ما له في هذه الدنيا؟

ينهض الغزيّ رغم المصاب مُكافحاً، صامداً، حالماً. أما نحن، فعلينا خلع أقنعتنا ومواجهة هشاشتنا... فهم لا يحتاجون منا تعاطفاً وهمياً وتصفيقاً لا صوت له.

No comments: