تقرأون المقال في مدونات العربي الجديد
أتابع وعائلتي رحلة ابنتنا إلى تركيا لتلتحق بجامعتها بعد إجازة أمضتها في لبنان، ولكنّ الرحلة كانت مختلفةً هذه المرة. أجبرت الحرب الشرسة ابنتي على السفر باكرًا قبل انتهاء إجازتها، لتغادر لبنان برًّا عبر سوريا، فالأردن، ومن هناك جوًّا إلى تركيا، في رحلةٍ مرهقةٍ وخطّ سيرٍ طويلٍ عسير؛ رحلةٌ تخللتها ساعاتٌ وساعاتٌ من الانتظار عند كل نقطةٍ حدودية. وبينما أنا في خضم قلقي خلال رحلة ابنتي، أحمل الهاتف لعلّ رسالةً تصلني فتطمئنني على اجتيازها الحواجز إلى برّ الأمان، اقتربت مني أصغر بناتي التي التحقت بالجامعة مطلع هذا العام لتقول إنها تخشى أن لا تكون قويةً مثل إخوتها لأنها تعيش في مدينةٍ آمنة، تأخذها أمها كلّ صباحٍ إلى صفوفها ثمّ تعيدها إلى المنزل آخر النهار. هي التي عاينت منذ صغرها المعاناة التي مرّ بها كلٌّ من إخوتها الذين سبقوها خلال دراستهم بسبب التوترات المتعددة التي مرّ بها بلدنا، لتصبح رحلة الطالب إلى جامعته أشبه بتوغلٍ غامضٍ وسط الأدغال: لا يعرف من أين تعترضه المصاعب ومتى تحيط به المخاطر.
استعرضت في ذهني شريط المخاوف التي مررت بها منذ صغري. ذهبت بي ذاكرتي إلى الثمانينيات، حين كنا نختبئ جماعيًا، أنا وعائلتي الممتدة وأناس حارتنا، في بيت جدّي، ذلك الحصن المتين ذو الحجارة الكبيرة، حتى جاءنا خبر وصول جنود الاحتلال إلى بلدتنا. وبحشرية طفلةٍ صغيرة، تجاوزتُ مخاوفي وخرجت إلى باحة بيت جدي، فرأيت مراكب كبيرةً غريبة، دباباتٌ في أعالي تلال البلدة تتجه نحو حيّنا، وعليها مخلوقاتٌ غريبةٌ تلبس قبعات خضراء تشبه البطيخ على رؤوسها. ومع اقتراب المراكب الكبيرة تعتليها المخلوقات الغريبة، تبين لي أنّهم بشر! لهم رؤؤس عاديّةٌ مثل رؤوس البشر، ووجوهٌ وأيدٍ وأرجلٌ، لأتيقن أنهم ليسوا مخلوقاتٍ فضائيةً ترتدي قبعاتٍ من قشر البطيخ كما رأيتهم مسبقًا.
وبعد لحظة الإدراك تلك، صرت أرى عدوّنا البشري يمارس سلوكياتٍ غير بشرية. حاصر الجنود بيوتنا وقيّدوا حركتنا ومنعونا عن مدارسنا، اقتحموا بيوتنا بهمجيّةٍ باحثين عن أيّ دليلٍ ليستخدموه ضدّ شبابنا، ثمّ اقتادوا الشباب إلى ساحة البلدة ليستجوبوهم عما لم يفعلوه ويمارسوا نرجسيتهم عليهم.
حاصر الجنود بيوتنا وقيّدوا حركتنا ومنعونا من مدارسنا، اقتحموا بيوتنا بهمجيّةٍ باحثين عن أيّ دليلٍ ليستخدموه ضدّ شبابنا
ثم مرّت السنون الطوال، وفرحنا بخروج العدوّ من منطقتنا، ورحنا نحتفل على الطرقات التي حُرمنا من السير عليها لسنوات. ولكن سرعان ما امتزجت تلك الفرحة باللوعة مما رأيناه من دمارٍ، وما سمعناه عن الألغام التي ظلّت مزروعةً في حقولنا تقتل الأبرياء، وكأن العدو أراد أن يستمرّ في خطف أكبر قدر من الأرواح حتى بعد رحيله ليوجع من بقوا على قيد الحياة.
وبالفعل، وحتى يومنا هذا، ما زالت أيادي ذلك العدو تعبث بحياة اللبناني ومشاعره وأمنه بافتعال خلطاتٍ عجيبة من الحروب الحامية والباردة، الناعمة الخفية والقاسية المحسوسة، فقد عانى اللبناني لعقودٍ من آثار الاغتيالات والحروب والمشكلات الداخلية والاقتصادية والتفجيرات والفراغ السياسي والثورات والتفرقة، إلى أن وصلنا إلى ما عليه الآن: قتلٌ وذعرٌ ونزوحٌ وتهجيرٌ... وتشويهٌ للحياة. وها هو التاريخ اليوم يعيد ذكريات الأمس، فلا يتسنى لنا أن نلتقط أنفاسنا بعد كلّ محنةٍ، حتى نجد البلاد والعباد وقد قذفوا في محنةٍ جديد، وكل مأزقٍ يتجاوز بحدته وأذاه المآزق التي سبقته، إلى أن أصبحت المآزق تُدار عن بعد بالذكاءات الاصطناعية لتضاعف من خطورتها وأذاها.
مع أني أسكن الآن في بلدٍ آمن، إلا أن شبح الخوف يلاحقني في كل لحظة. أخاف على أحبائي وأصدقائي وعائلتي الذين يعيشون داخل غلافٍ من المجازر المتلاحقة، يتلمسون حياتهم بين الخراب والدمار، ينامون على أصوات الغارات ويتابعون أيّامهم على طنين طائرات الاستطلاع، لا يعرف الواحد منهم مصيره في اللحظة القادمة. وأنا هنا في أماني، يهبط قلبي كلما سمعت صوت طائرةٍ مدنية في سماء المدينة، أو جلبة آليات إصلاح الطرق وبناء البيوت، فأخجل من نفسي عندما أستذكر أن هذه الأصوات هي أضعاف مضاعفة على شعب بلدي بأكمله، ولكنها عندهم أصوات طائراتٍ وقذائف ومسيّراتٍ أعدت للدمار والقضاء على الحياة. وفي الوقت الذي لا أستطيع فيه النوم بسبب الأخبار التي لا أنقطع عن متابعتها، أعرف أن بلدي وأهله هم الخبر بذاته.
كل هذا يجعلني أتساءل: هل بالفعل يجب أن تقترن حياة اللبناني بالخوف والمشقة؟ هل تنتقص لبنانيته إذا عاش في أمن وأمان؟ وهل الدروس الحياتيّة لطالبة جامعية تظلّ ناقصةً إذا لم تكن مشبعةً بالمخاطر؟
أعود لصغيرتي: لا يا عزيزتي، لست بحاجةٍ لأن تعيشي الخوف حتى تصبحي قويّة، بل لا يستحق أيٌّ منا أن يعيش الذعر والحرمان، ولا يستحق أولادنا أن يعيشوا ما عشناه نحن سابقًا. الله كرّمنا، والحياة الحرة الكريمة الآمنة هي ما نستحقه، والهلاك، الهلاك لكل من يحاول أن ينتزع تلك الكرامة منا.